الخميس 25 إبريل 2024
اقتصاد

الدكتور عبد الوهاب زايد.. المرشد الدامغ إلى "المجهول" في التمور

الدكتور عبد الوهاب زايد.. المرشد الدامغ إلى  "المجهول" في التمور عبد الوهاب زايد لدى إلقائه درسا دينيا في حضرة أمير المؤمنين، (ويسارا) رفقة الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي
قطع آلاف الأميال، وتصبب عرقا، وغاص في التاريخ والأنثربولوجيا، من أجل أن يرشدنا إلى جذور التمر من صنف "المجهول" الذي ضاع نسبه بين القبائل.

لم يطمئن إلى ما "قيل ويقال"، ولم يرتح إلى تلك الروايات التي تعد الغيوم وحلقات الدخان وهي مستلقية على ظهرها في سطح بناية مهجورة، ولا لتلك المحكيات المسكوكة التي تشوي الذرة في لحظات الغروب، بل أيقظ حواسه كلها على نحو جعل "الأقاويل" تخفض أبصارها خجلا من علمه الراسخ وسعة اطلاعه؛ وسنده ليس "التشيع الأعمى" لهذا القول أو ذاك دون تعقل أو تمحيص أو إدراك تجريبي للموضوع المدروس، بل يميل كل الميل للعلم الذي يجعل "الحقيقة"  نظيفة كالقطن، ولمّاعة كحجر الماس الصقيل.

إنه الدكتور عبد الوهاب زايد، الذي مشى في ممرات ملتوية مئات المرات من أجل أن يعيد لـصنف "المجهول" وجهه الأصلي، بعد أن ألبسوه هوية مطفأة بين أصناف عديدة من التمور؛  فقد انتهى بالدليل العلمي القاطع إلى أن منبت تمر  "المجهول" يقع ببوذنيب بإقليم الرشيدية، وأنه وصل إلى ولاية كاليفورنيا عام 1927، ومنها إلى العديد من دول العالم التي اتكأت على "واحاتها" لتحجب "المجهول" في ظلها، متناسية أن بوسع البحث الزراعي أن يروض الحقائق الملتبسة، وأن يجعلها تشق طريقها نحو الدليل العلمي.  

يقول الدكتور زايد ل "أنفاس بريس" بأنه: "حيكت حول أصل صنف "المجهول" الكثير من القصص والحكايات، إلى درجة بتنا نرى ونسمع أن كثيرا من الدول قد تبنت هذا الصنف ونسبته إلى نفسها، أو إلى غيرها بدون أي دليل علمي يوثق أصل هذا الصنف".  فإذا كان الدليل العلمي القائم على تحليل الجينات في المختبر يقول لنا دائما "دع الهواء الغريب لنفسه"، فإن الدليل الأنثربولوجي يفشي أن عالما أمريكيا (والتر سوينجل)، حلَّ ببودنيب سنة 1927، حين ضرب "البيوض" العديد من واحات تافيلالت،  لكنه حين غادرها، حمل معه 11 فسيلة من صنف "المجهول" خالية من المرض، وشحنها ضمن صناديق خشبية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ثم نقلها إلى منشأة تابعة لوزارة الزراعة في كاليفورنيا.. ومن هناك انتشرت زراعة " المجهول" على أوسع نطاق في الغرب الأمريكي، ثم إلى العديد من الدول التي صارت تنسبه إلى تربتها، نظرا للمميزات التي يختص بها، فنصبت حوله حاجزا من الغموض، وأغدقت الشارات والأوسمة على نفسها، كأن شمس الحقيقة ستظل نائمة في مغارتها. 

ولأن للدكتور زايد عقلا راجحا، وقدما راسخة في المعامل والمخترات الزراعية، فإنه قام بإعداد كتاب بالغ الأهمية  حول هذا "المجهول" الذي استعاد اسمه ووجهه وأصله وفصله ومغربيته، وأسماه  "المجهول دُرة التمور"، وهو الكتاب الذي ألفه الدكتور زايد تحت مظلة جائزة خليفة لنخيل التمر والابتكار الزراعي، وبالتعاون مع الدكتور عبد الله وهبي، ومشاركة 8 وزراء زراعة عرب، و4 منظمات دولية، و44 باحث وعالم متخصص بنخيل التمر من 18 دولة، داحضا الشائعات التي راجت حول أصل هذا النوع من هنا وهناك.

ليس "المجهول" هو من أجج الالتفات إلى هذا العالم والخبير المغربي المغموس في رائحة الأرض، بل إن سيرته العلمية "تشبه بستانا من الفستق الأخضر"، فهو من مواليد مدينة فاس سنة 1957، لكن أصول عبد الوهاب زايد تنحدر من تافيلالت. وبمدينة فاس تدرج في المستويات الدراسية، إلى أن التحق بـ"معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة" بالرباط، ليتخرج منه مهندسا زراعيا. وفي تلك المرحلة، تسرب إلى قلبه عشق النخيل، فقرر أن يبني من ثماره أمبراطورية لم يسبق إليها قبله أحد. ولذلك لم يترك بلدا "متمرا" إلا وتدفق بجناحيه الطائريين إليه.

استمر الخبير عبد الوهاب زايد في أسفاره باحثا ومنقبا، وتوج هذا الانكباب المستنر بحصوله سنة 1990 على الدكتوراه في علوم البستنة من جامعة ولاية كولورادو بالولايات المتحدة الامريكية. وقد عمل لما يزيد عن 15عاما في الوظيفة العمومية، أستاذا في قسم علم النبات في كلية العلوم، جامعه القاضي عياض بمراكش، وتحديدا في مجال زراعة النخيل وإنتاج التمور،  كما انضم إلى منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو )، في يونيو1995؛ ومن هذا الموقع الدولي، ساهم في إعداد العديد من المشاريع التنموية في عدة دول كبوركينا فاسو، الأردن، السعودية، المغرب، النيجر، نيجيريا، سوريا، تونس، الامارات العربية المتحدة، واليمن، مما جعل هذه المنظمة تسارع إلى  تعيينه "سفيرا لها للنوايا الحسنة" سنة 2014.

نال عبد الوهاب زايد العديد من الجوائز، منها (جائزة B-R. Sen من منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة سنة 1999، ثم جائزة التميز التي تمنحها المنظمة العربية للتنمية الزراعية سنة 2000، وهي السنة التي التحق خلالها بالإمارات للعمل. غير أن مساره المهني الحافل بإنجازات بحثية مهمة لتطوير نخيل التمر، مكنه منذ 2014، من أن يصبح مستشارا زراعيا لدى وزارة شؤون الرئاسة بدولة الامارات العربية المتحدة، فضلا عن عمله مستشارا لوزارة الأمن الغذائي بنفس البلد منذ 2017 ، حيث تمكن عام 2002 من إقامة "الشبكة الدولية لنخيل التمر"  (مقرها  "وحدة دراسات وبحوث تنمية النخيل والتمور" التابعة لجامعة الإمارات العربية المتحدة). كما حشد الدعم المجتمعي لتأسيس جمعية أصدقاء النخلة بالإمارات التي يبلغ عدد أعضائها أكثر من 300 عضوا، فضلا عن إشرافه على تنظيم معرض الامارات الدولية للنخيل والتمور، وعلى العديد من الندوات وورشات العمل والمؤتمرات العالمية الخاصة بنخيل التمر بالإمارات، ومنها: سلسلة المؤتمر الدولي لنخيل التمر (المؤتمر السابع عقد في أبو ظبي أيام 14-15-16 مارس2022). كما كان وراء تخرج العديد من الأطر الإماراتية لتولي المسؤولية في قطاع نخيل التمر بدولة الامارات.

يتولى الدكتور زايد، إلى جانب كل هذه المهام التقنية والإدارية، منصب الأمين العام لـ "جائزة خليفة الدولية لنخيل التمر والابتكار الزراعي"، التي تعد أول وأكبر جائزة متخصصة في نخيل التمرعلى مستوى العالم. كما أن له إسهاما قيما في مجال التأليف. ومن أهم مؤلفاته كتاب عن "نخيل التمر" الذي نشرته منظمة "الفاو" بالعربية والإنجليزية، ثم "معجم مصطلحات التقنية الحيوية في الزراعة والغذاء، وقد صدر أولا بالإنجليزية، ثم ترجم إلى خمس لغات، وأخيرا كتاب "المجهول درة التمور".  وقد مكنته خبرته الطويلة في مجال التمور من إقامة صلات بالمهتمين بنخيل التمر زراعة وصناعة وتجارة، داخل الإمارات وخارجها، حيث قدم استشارات علمية وفنية للعديد من الجهات. كما مكنته من الوقوف يوم الخميس 24 رمضان 1440 (30 ماي 2019) أمام أمير المؤمنين الملك محمد السادس، لإلقاء درس ديني من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية في  موضوع "النخيل في القرآن والسنة".

لقد أعاد الدكتور عبد الوهاب زايد تمر "المجهول" إلى موطنه بتافيلالت بأقدام راسخة، وأخرجه من تلك العناوين الطويلة والمتشابكة، وما زالت أصابعه على حقيبته للسفر بعيدا.. بعيدا بهذا المنتوج المغربي تشرد طويلا، لكنه صار يقول: "ما من "مجهول" في الأرض وإلا وعليه قطرة من ولعي " !