الخميس 28 مارس 2024
سياسة

أبو وائل: لماذا شاخ حزب النهج الديمقراطي وأصيب بالعقم ؟

أبو وائل: لماذا شاخ حزب النهج الديمقراطي وأصيب بالعقم ؟ مصطفى ابراهمة وعبد الحميد أمين(يسارا)
تتباكى كالعادة قيادة النهج الديمقراطي مشتكية من تضييق السلطات العمومية على نشاطها وعدم تمكينها من الاستفادة من قاعة عمومية صغيرة لعقد مؤتمرها الخامس الذي كان مبرمجا آخر يناير.
اعتادت قيادة هذا الحزب سياسة الهروب من المحاسبة بتهريب النقاش عن جوهر القضايا التي تستلزم إجابات واضحة وصريحة من هذه القيادة لقواعد الحزب، انسجاما مع ما يطالب به الحزب الدولةَ بربط المسؤولية بالمحاسبة، التي لم يعد هذا المنطق مقنعا لها أمام ضعف عمل الحزب وانحسار أدائه ومحدودية مردوديته مقارنة مع طموحات مناضليه الذين لا يجدون للفعل العمومي منفذا بسبب تكلس القيادة وجمودها وتقديسها لبعض الوسائل التقليدية والتكتيكات التي لم تعد ذات جدوى في هذا العصر.
كان يمكن تفهم هذا التباكي والحرص على عقد المؤتمر لو كانت فعلا قيادة الحزب ديمقراطية وحريصة على احترام الآجال القانونية الفاصلة بين المؤتمرات باقتناع ذاتي بجدوى الانتظام والانضباط وليس فقط خوفا من مخالفة قانون الأحزاب. حينها، يمكن فعلا القول بأن القيادة وفية لالتزاماتها ولكن تجربة الحزب منذ التأسيس سنة 1995، أي ما يقارب ثلاثة عقود من العمل الحزبي، تؤكد أن آخر ما تحرص عليه قيادة الحزب هو انتظام عقد المؤتمرات. فالمؤتمر الأول لم يعقده الحزب إلا بعد تسع سنوات، أي سنة 2004، بينما عقد المؤتمر الثاني بعد أربع سنوات فقط، أي سنة 2008، وعقد المؤتمر الثالث سنة 2012، والمؤتمر الرابع عقد سنة 2016. فما السر في عدم عقد المؤتمر الخامس سنة 2020؟
الجواب واضح ومنطقي ومقبول، وهو حالة الطوارئ الصحية التي عاشها العالم، وضمنه المغرب، ولذلك يمكن تفهم تأخير عقد المؤتمر. ما سر هذه الاستفاقة الآن؟ هل انتهت الحالة الوبائية؟ هل صرنا في مأمن من انتشار الوباء؟ لماذا لا يستحضر الحزب هذه الحالة الاستثنائية أثناء 
إعداده للمؤتمر ويتعامل على أساسها كما تعاملت أحزاب سياسية أخرى عقدت مؤتمراتها خلال هذه الجائحة؟
الجواب هذه المرة واضح وغير منطقي وغير مقبول. تريد القيادة الاختباء وراء حالة الطوارئ بالإصرار على عقد المؤتمر حضوريا مائة في المائة لتقليص عدد الحضور وتفويت هذه المحطة عن قواعد الحزب للتهرب من المحاسبة. لقد عقد الأسبوع الماضي حزب الاتحاد الاشتراكي مؤتمره الوطني الحادي عشر مزاوجا بين الصيغة الحضورية والتناظرية من خلال منصة رئيسية و12 منصة جهوية، إضافة إلى ثلاث منصات بالخارج شملت دول فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، وهو ما مكنه من حضور 1400 مؤتمر.
ما الذي يمنع النهج الديمقراطي من اعتماد صيغة مشابهة؟ هل لا يتوفر على إمكانيات لذلك؟ هل مناضلو الحزب عاجزون عن توفير هذه المنصات؟ هل ليس لمناضلي الحزب في الداخل والخارج الحق في حضور المؤتمر والمساهمة في أشغاله؟
نحن أمام فرضيتين اثنتين لا ثالث لهما. تتمثل الفرضية الأولى في أن الحزب لا يتوفر على قاعدة جماهيرية تمكنه من عقد مؤتمر بهذه المواصفات والأعداد، بينما تتجلى الفرضية الثانية في كون قيادة الحزب حريصة على عقد مؤتمر محدود العدد لغاية في نفسها. وفي كلتا الفرضيتين لا حل أمامها إلا التحجج بالمنع والتضييق والحصار وغير ذلك من القاموس الذي صار معروفا ومتوقعا. في الحقيقة، تشكل محطة المؤتمر الوطني مناسبة لقياس قوة الحزب وجماهيريته ومدى حضوره وسط المجتمع، وخاصة بالنسبة لمن "صدع رؤوسنا" بشعار حزب الطبقة العاملة. لماذا لم يفتح الحزب الباب أمام مشاركة أوسع لمناضليه في الإعداد للمؤتمر؟ لماذا يحرص على الطابع الحضوري للمؤتمر بينما كل محطات الإعداد كان طابعها الحضور المحدود للمناضلين؟ لماذا هذا الاستعجال بعقد المؤتمر في ظل حالة طوارئ صحية ونحن نتشوق جميعا إلى الرجوع إلى الحالة العادية قريبا؟ أليس في هذا الإصرار حرص على تغييب مناضلي الحزب من المساهمة في هذه المحطة؟
هذه بعض الأسئلة التي أتقاسمها مع منتسبي الحزب والمتعاطفين معه ومع من يعنيهم أمر هذا الحزب، وهم قلة على كل حال، لأن الحزب لم يستطع طيلة ما يقارب العقود الثلاثة الماضية خَطَّ طريق جماهيري وبقي أسير تدبير تقليدي وقيادة غير ديمقراطية وشعارات للاستهلاك وبرامج غير واقعية وتكلس تنظيمي يقف عائقا أمام التجدد الذي يُمَكِّن الحزب من الانخراط في موجة الأحزاب اليسارية الجديدة التي نجحت في التخلص من التقوقع على الذات واستهلاك رصيدها وتآكل أداتها التنظيمية.
أَلِفَت القيادة النهجوية لعب ورقة المظلومية ظنا منها أنها تنتعش فيها وتستدر بها عطف الخارج، ونسيت أن المغاربة أذكى مما يتصورون. وأَلِفَت قيادة النهج كذلك تخدير قواعدها بخطاب الاستهداف والتضييق من المخزن وكأن الحزب له قدرة على تحريك الشارع في أي وقت بالأعداد التي يمكنها خلخلة استقرار البلاد. مناضلو الحزب يعون جيدا حجمهم، ويعرفون أن سبب فشل الحزب هو قيادته المترهلة التي لم تتجدد منذ سبعينيات القرن الماضي أيام العمل السري، وعدم تجديد أطروحات الحزب السياسية الجامدة التي ما تزال مبنية على صراعات الحرب الباردة، وعدم الانسجام مع هوية الحزب بجعله رهينة تحالفات غير طبيعية مع خصوم الحزب وتضييع تحالفاته الطبيعية مع شركائه الإيديولوجيين والسياسيين، وعدم الوفاء لإرث الحزب.
أكبر مشاكل النهجويين هي الخلط بين معارضة النظام، وهو حقهم طبعا، وبين معارضة الوطن والوقوف ضد إرادة الشعب المغربي في استكمال سيادته على كل ترابه في قضية لا تقبل المساومة لأنها جزء من كيان المغاربة وكرامتهم، وقد كان بيان الحزب أثناء أحداث الكركرات مناسبة أخرى تأكد فيها المغاربة من الاصطفاف اللاوطني لهذا الحزب تجاه قضاياه المصيرية وغير القابلة للحياد. هل باستطاعة القيادة النهجوية إشراك كل قواعد الحزب في نقاش هذا الخيار وإخضاعه لاستفتاء ديمقراطي تشرف عليه هيأة محايدة؟ وهل ترضى القيادة بنتائج هذا الاستفتاء؟ وهل تقدم استقالتها إن تبث أن قواعد الحزب غير راضية عن هذا الاختيار اللاوطني الذي يسبب لهم مشاكل مع المغاربة ويجعل كلامهم مرفوض عند الشعب الذي لا يتجاوب مع كل نداءاتهم؟ ها هو التحدي مطروح. والأولى لمن يطالب بجمعية تأسيسية منتخبة وهيأة مستقلة مشرفة عن الانتخابات أن يعطي القدوة من نفسه ويوافق على هذا المقترح ويفعل مقتضياته عاجلا.
وأكبر مشاكل النهجويين سقوطهم في مرض الهيمنة وأسلوب الإقصاء وعدم قدرتهم على التعايش مع من يختلف معهم في منظمات جماهيرية تستمد قوتها من تعدديتها. أصبح تحويل المنظمات الجماهيرية إلى ملحقات حزبية هو المنطق المفضل لدى قيادة النهجويين، وهو ما أضعف هذه المنظمات وقلص من هامش تأثيرها وعزلها وأدخلها في توترات وصراعات كانت في غنى عنها. أصبح الحزب متهما بالسطو على جمعيات المجتمع المدني وتحويلها إلى منظمات موازية تشتغل وفق أجندة حزبية بلافتات جمعوية أو حقوقية أو نقابية.
وأكبر مشاكل النهجويين تجلت في تضييعهم لواجهة العمل النقابي القوية من خلال الاتحاد المغربي للشغل بسبب مزايدات فارغة للبوحاطي عبد الحميد أمين و"رباعتو". لم يترك لهم "التنقاز" مكانا في النقابة ودفعوا ثمن إصرارهم، وهم محالون على التقاعد، على البقاء في القيادة بأي ثمن. من يتحمل مسؤولية التفريط في هذه الواجهة الجماهيرية؟ أليست القيادة الحالية؟ ألا يشكل المؤتمر مناسبة لمحاسبتها على ذلك؟ وكيف تتم محاسبتها من خلال مؤتمر منتقاةٌ تركيبتُه بعناية لتقول بأن "العام زين" مختبئة وراء التدابير الاحترازية لخفض عدد المؤتمرين؟ هنا يتضح أن الحرص على عقد المؤتمر في قاعة عمومية ليس إلا تكتيكا للهروب من المساءلة الجماهيرية وإلصاق السبب في المخزن. الأولى لمناضلي النهج المطالبة بعقد مؤتمر جماهيري من خلال منصات تناظرية جهوية تتيح الفرصة للجميع للإدلاء برأيهم.
وأكبر مشاكل النهجويين سقوط جزء غير قليل من قيادييهم أسرى للارتزاق السياسي، إذ صاروا يفضلون الواجهات النضالية المدرة للربح والشهرة والرمزية ويخلون مراكز
 النضال الحزبي. عطاء مناضلي الحزب في الجمعية الحقوقية والجمعيات والنقابات أكبر من الحزب لأن فيها تعويضات وتفرغا وأسفارا. 
لماذا لم تطرح قيادة الحزب بجدية هذا الأمر للنقاش بين قواعد الحزب؟ ولماذا لم تطرح هذا الأمر للتناوب بين مناضلي الحزب؟ ولما لا تلزم هؤلاء جميعا بالتفرغ لبناء حزب الطبقة العاملة !؟ هذه أسئلة كثيرة يطرحها مناضلو الحزب وينتظرون فرصة إثارتها في العلن وجوابا صريحا من القيادة.
وأكبر مشاكل النهجويين تجلت في التنكر لماضي الحزب وهويته التقدمية ووضعه رهن إشارة جماعة العدل والإحسان المحظورة متناسين الماضي الدموي للعلاقة بين الطرفين وبدون مطالبة هذه الأخيرة بالاعتراف والاعتذار، على الأقل، كما يطالبون الدولة بالحقيقة وعدم الإفلات من العقاب عن ماضي الانتهاكات الجسيمة. هذه المقاربة الانتهازية تضرب مصداقية الحزب في مقتل وتجعل كل اليساريين المغاربة يفقدون الثقة في قيادة هذا الحزب. هل يمكن تناسي الهوية الخرافية/غير العقلانية للعدليين؟ هل يمكن تجاهل الطابع العنيف والدموي لها؟ هل يمكن بهذه البساطة التنكر لدماء الشهداء؟ هل يمكن تجاهل الطابع التيوقراطي لمشروعهم حول الخلافة على منهاج النبوة؟ هل يمكن التغاضي عن كل هذه التناقضات من أجل جبهة ميدانية يعي الجميع أن المستفيد الأول منها هم العدليون؟ هل يرضى المناضلون النهجويون أن يصبحوا بيادق في لعبة شطرنج يتحكم فيها العدليون؟ ألم يستفد النهجويون من سابقة 2011؟ ألم تكن هذه الاختيارات سببا في حالة البرود التي تطبع العلاقة اليوم بين مكونات الصف اليساري في المغرب؟
إن استمرار حزب النهج بهذه الطريقة يصنفه موضوعيا في خانة الوريث غير الطبيعي لإرث الحركة اليسارية الذي يدعيه، ويفضح مشكل القيادة الذي ينخره ويقف عائقا أمام تطوره، ويصنفه في خانة الأصوليات الجامدة على الموروث والتي تصم آذانها وتغمض أعينها عن التحولات المجتمعية، ويجعله أبعد عن التنظيمات الديمقراطية بسبب غياب الديمقراطية داخله، ويصنفه في خانة التنظيمات الشائخة بسبب ضعف نسبة التشبيب وبسبب حالة العقم الذي يعيشه في ظل عدم انخراط مناضلين جدد في صفوفه إذ لا يمكن لشباب حداثي الانخراط في حزب أسير أطروحات وأساليب ماضوية، ويفضح فشله في بناء تحالفات طبيعية منسجمة مع هوية الحزب كما يفضح هرولته لبناء تحالفات هجينة مع أعدائه وخصومه بما يقويهم ويضعفه، ويكشف فشله في بناء الثقة للعمل المشترك داخل الإطارات الجماهيرية لأنه يشتغل بمنطق الهيمنة.
وحتى لا يبقى كلامنا تجريديا نطرح مثالا تقتضيه المناسبة. أين يتموقع المناضلون النهجويون في الجمعية الحقوقية، التي حولوها لملحقة حزبية، في قضايا تهم التحرش والاغتصاب والمثلية. ألم يتموقعوا في صف بوعشرين وسليمان وعمر راضي وزيان؟ ألا يستدعي المبدأ الحقوقي في محاربة العنصرية استنكار التصريحات العنصرية لدنيا الفيلالي؟ هل العداء للمخزن ومنطق المؤامرة يبرر هذا التموقع؟ ألم يخسر الحزب من تصرفات مناضليه هذه؟ ألم يكن تسريب مضمون جلسة الاستماع للمشتكية بعمر راضي فضيحة؟ من ساهم في تصلب موقف الجمعية من هذه القضايا. أليس مناضلو النهج؟ ألم يسجل مناضلو باقي التنظيمات مواقف متناغمة مع مبادئهم منتصرين للفئات المتضررة ومطالبين بمحاكمة عادلة؟
بالمقابل، استفادت جمعيات حقوقية أخرى من هذه الأحداث وانتصرت للمبادئ الحقوقية. هل يمكن نعت العصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان بأنها "مخزنية"؟ لماذا تبنت قضية نجلاء الفيصلي إحدى المشتكيات بالشيخ المتصابي محمد زيان بسبب التحرش الجنسي؟ هل في هذا التبني تماهي مع المخزن أم انسجام مع طابعها الحقوقي؟ هل يمكن نعث مناضلي العصبة ب "بيع الماتش" أو "المخازنية"؟ الحكم بهذه الطريقة يكون بتتبع مواقف هذه الجمعيات من قضايا عديدة وليست واحدة فقط.
لقد اتضح من خلال الندوة الأخيرة للمشتكية بالشيخ المتصابي زيان أنها تتوفر على ما يكفي من الأدلة التي تجعل كل ذي ضمير ومبدأ حقوقي يتبنى قضيتها ويطالب، على الأقل، زيان بجواب رسمي عن الاتهامات والأدلة التي تقدمها. تقول المشتكية أن وزير حقوق الإنسان الأسبق يا حسرة أرسل لها فيديو وهو عار إلا من تبانه إلى هاتفها وبأنها تتوفر على الفيديو الذي أرسله لها من هاتفه الخاص، وتضيف وقائع أخرى مرتبطة بالابتزاز ودعوته لها بالسفر معه إلى طنجة. هل لا يمكن التأكد من صحة هذه الادعاءات؟ وهل الأمر معقد إلى هذه الدرجة لتحديد موقف من الحادثة؟ وهل هناك حرج في أن يطالب مناضلو الجمعية زيان بجواب دقيق عن هذه الاتهامات لتحديد موقف من هذه القضية عوض التضامن غير الرسمي معه والسكوت عنه وعدم تبني قضية تدخل في صلب اهتمام الجمعية التي تصنف نفسها حداثية؟
هذه بضع أمثلة تبين الكوارث التي يرتكبها المناضلون المحسوبون على الحداثة والصف الديمقراطي والتي تبعدهم عن المغاربة وتجعل المتعاطفين معهم يكتشفون تناقضاتهم. والمستفيد طبعا هم خصوم الحداثة. وهذه بضع أمثلة تكشف كيف يساهم هؤلاء في تخريب بيوتهم بأيديهم لأنهم يهدون فرصا ذهبية لخصومهم. أبهذه المواقف يقوى الصف الحداثي؟ أم بهذه الطريقة ننتصر للديمقراطية؟
مصيبة النهجويين هي أن معارضة النظام سببت لهم العمى وطمس البصيرة حتى صار مُوَجّه تموقعهم هو الخانة المعارضة للدولة ولو لم تكن طرفا في قضية، وهو ما يفوت عليهم التموقع في المكان العادل والمنسجم مع طبيعتهم. يبررون تحالفهم مع العدليين ب "التحالف الموضوعي/الميداني" ويغيبون ذلك حين يتعلق الأمر بالدولة. والتجارب تثبت أنهم يفقدون ويخسرون رصيدهم وجمهورهم ومصداقيتهم. فهل كان المؤتمر سيجرؤ على مراجعة هذا الخط الانتهازي وعرضه للانتقاد بإشراك كل مناضلي الحزب عوض حصره في القيادة المنتفعة؟