Sunday 17 August 2025
كتاب الرأي

محمد سالم عبد الفتاح: الزعيم حرمة ببانة.. الوساطة التي جنبت موريتانيا والمغرب الاصطدام العسكري

 
 
محمد سالم عبد الفتاح: الزعيم حرمة ببانة.. الوساطة التي جنبت موريتانيا والمغرب الاصطدام العسكري محمد سالم عبد الفتاح
أجواء متوترة في ظل انسحاب متعثر من نزاع الصحراء، وبروز تناقضات صارخة ما بين مواقف متزعمي الانقلاب العسكري الأول في موريتانيا.. 
منذ الإعلان عن الانقلاب العسكري الذي قاده ضباط وقادة عسكريون في الجيش الموريتاني على مؤسس الدولة الموريتانية المختار ولد داداه في الـ10 من يوليو 1978، كانت أهم مبرراته هي التحضير للإنسحاب من نزاع الصحراء الذي أنهك الإقتصاد الموريتاني، وقوض سيادة الدولة الموريتانية وكبدها خسائر كبيرة، وجد القادة العسكريون الجدد أنفسهم في مواجهة وضعية سياسية شائكة تتميز بتصاعد نفوذ وتدخل القوتين الإقليميتين المجاورتين المغرب والجزائر في موريتانيا، وتناقض مواقفهما إزاء تدبير الإنسحاب الموريتاني من حرب الصحراء. 
اتفق متزعمو الانقلاب العسكري الأول في موريتانيا على ضرورة الانسحاب من نزاع الصحراء، لكنهم اختلفوا حد التناقض ما بين تيار مؤيد للإبقاء على التحالف الوثيق الذي تشكل طوال سنوات حرب الصحراء الثلاثة مع المغرب، منذ انخراط موريتانيا في النزاع عقب توقيعها لاتفاق مدريد سنة 1975، والذي ترجم في شكل اتفاقية للدفاع المشترك بين البلدين، إلى جانب عديد المصالح الاستراتجية الكبرى التي جمعتهما. وبين تيار آخر مطالب بقطيعة تامة مع المغرب وانفتاح كامل على الجزائر تفاديا لأي اصطدام مع الأخيرة مستقبلا، حيث برر الفريق الثاني مواقفهم بالهواجس المثارة إزاء مطالب سياسية سبق أن عبرت عنها المملكة في فترات سابقة بتبعية موريتانيا لها. 
تناقضات سرعان ما طفت على السطح، وقوضت استقرار النظام العسكري الحاكم، حيث لم يمضي العام الأول على الإنقلاب الذي قاده العقيد المصطفى ولد السالك، حتى تم إسقاطه هو الآخر في 6 من أبريل 1979، من خلال انقلاب عسكري ثاني قاده هذه المرة العقيد محمد محمود ولد لولي ورئيس وزرائه القوي محمد ولد بوسيف المقربان من المغرب، والمؤيدان للإبقاء على تنسيق عالي مع الجيش المغربي بخصوص تنظيم انسحاب موريتانيا من إقليم الصحراء الغربية. لكن مصرع ولد بوسيف الغامض في نفس الفترة نتيجة سقوط الطائرة التي كانت تقله في رحلة جوية قادمة من دكار إلى نواكشوط في السابع والعشرين من مايو سنة 1979، سيفسح المجال لهيمنة القادة العسكريين المناوئين للمغرب والمحسوبين على الجزائر على القرار الموريتاني، وفي مقدمتهم القيادي العسكري النافذ آنذاك العقيد محمد خونا ولد هيدالة. 
وطوال الفترة التي أعقبت الانقلاب العسكري الأول في موريتانيا، كانت دول المنطقة تترقب فيها التطورات التي تشهدها الساحة الموريتانية. وورغم الاتصالات الحثيثة العلنية والسرية التي جمعت أفرادا من داخل اللجنة العسكرية للخلاص الوطني مع ممثلين عن الأطراف المعنية بنزاع الصحراء، لكنها لم تنجم عن بلورة تصور واضح للانسحاب الموريتاني عدى التأكيد على ضرورة الإبقاء على إدارة موريتانية لمنطقة لكويرة، تفاديا لأي تداعيات امنية قد تصل إلى مدينة نواذيبوا عاصمة البلاد الإقتصادية المجاورة لها. كان أهم تلك الإتصالات تلك التي عقدها المقدم محمد خونا ولد هيدالة مع ممثلين عن جبهة البوليساريو، توجت بتفاهمات أولية معها تقضي بتسليمهما إقليم وادي الذهب تحت ضمانات دولية، لكن قيادة البوليساريو سرعان ما تنكرت لتلك التفاهمات في الاجتماع الذي ضم الطرفين بالجزائر في الـ 5 من غشت 1979. بعد أن عمدت إلى شن هجومات خاطفة على مواقع الجيش الموريتاني. 
وضعية شائكة استمرت زهاء سنة ونيف، حذت غير ما مرة بالقادة العسكريين الجدد في موريتانيا إلى طلب وساطة أحد أهم الشخصيات الوطنية التاريخية في موريتانيا، والتي كانت تحظى بثقة منقطعة النظير لدى العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني، حيث تم تكليف الزعيم السياسي احمدو حرمة ببانة من طرف الرئاسة الموريتانية رسميا بالتنقل إلى المغرب بهدف شرح وجهة النظر الرسمية الموريتانية، وطمأنة صانع القرار المغربي حول مصالحه في الإقليم والمنطقة، إلى جانب طلب تطمينات بخصوص انسحاب القوات العسكرية المغربية التي كانت لاتزال مرابطة في عديد المواقع الاستراتيجية داخل التراب الموريتاني بموجب إتفاقية الدفاع المشرك التي كانت تجمع البلدين، وتجنيب موريتانيا أي تداعيات الحرب التي كانت لا تزال مستمرة ما بين المغرب والبوليساريو. 
لقد حظي الزعيم حرمة ببانة بزخم وخلفية سياسية وتاريخية هامة سواء في المغرب أو موريتانيا، رغم عودته الحديثة من المملكة العربية السعودية التي أقام فيها أثناء شغله لمناصب سامية في منظمة التعاون الإسلامي على إثر  قراره اعتزال السياسة ومجاورة بيت الله الحرام، كما كان الشخصية السياسية الوحيدة التي عينها العاهل المغربي الراحل كسفير شرفي له، فقد سبق أن قاد حراكات سياسية وأخرى مسلحة مناوئة للتواجد الفرنسي في موريتانيا ولنظام ولد داداه في فترات سابقة، بعد أن مثل موريتانيا في البرلمان الفرنسي إبان الاستعمار، وكان من أهم الزعامات الوطنية المعاصرة التي أيدت المطالب المغربية في موريتانيا رفقة كل من الأمير فال ولد عمير والدي ولد سيدي بابا وعديد الشخصيات الموريتانية الوازنة الأخرى، ليتولى لاحقا عديد المناصب السامية بالمغرب. 
خلفية ساهمت في إنجاح وساطة الزعيم احمدو حرمة ببانة الرامية إلى إبقاء الحد الأدنى من التنسيق مع المغرب، وهو ما سهل لاحقا تدبير عمليتي الانسحاب الموريتاني من الإقليم، والانسحاب المغربي أيضا من المواقع التي كان يسيطر عليها الجيش المغربي داخل التراب الموريتاني، رغم التسريبات التي وصلت إلى المغرب حول المساعي المتعثرة لولد هيدالة وبعض القيادات العسكرية الموريتانية الأخرى، والرامية لإبرام تفاهمات سرية مع البوليساريو بهدف تسليمها إقليم وادي الذهب تحت غطاء دولي، وبالتالي فشل محاولاتهم لإحراج المغرب وقطع أي إمكانية للربط الميداني واللوجستي ما بين مواقعه العسكرية في داخل إقليم الصحراء الغربية وتلك المتواجدة داخل التراب الموريتاني. 
تشير الوثائق الرسمية الصادرة عن أمانة الرئاسة الموريتانية والتي سبق أن نشرها ابن الزعيم حرمة ببانة، الإعلامي والباحث الدكتور عبد الرحمان حرمة ببانة، تشير إلى انتقال احمدو حرمة ببانة في مناسبتين إلى المغرب بتكليف رسمي موريتاني، الأولى بتاريخ 3 غشت 1978، والثانية في 17 من نفس الشهر، حيث يرجح أنه شرح وجهة النظر الموريتانية المعلنة رسميا، كما نجح في تجنيب البلدين اصطداما عسكريا كان متوقعا، بسبب غموض الموقف الموريتاني عقب انهيار اتفاقية الدفاع المشترك الموقعة بين البلدين، وتضارب وتناقض التصريحات والمواقف التي يعبر عنها القادة العسكريون الموريتانيون الذين أبقوا على عديد قنوات الاتصال  مع بلدان المنطقة وخاصة مع أطراف نزاع الصحراء الأخرى.