الأربعاء 24 إبريل 2024
فن وثقافة

الفنان البيدوري.. صانع الدمى والحيوانات بالألوان وأسمال الثياب القديمة

الفنان البيدوري.. صانع الدمى والحيوانات بالألوان وأسمال الثياب القديمة عبد الكبير البيدوري في معرض له وفي محترفه

زارت جريدة "أنفاس بريس" مرسم الفنان عبد الكبير البيدوري، ونبشت بين رفوف دولاب محرابه الفني بمدينة اليوسفية في الكثير من الأعمال الفنية والإبداعية، والتي هي عبارة عن مجسمات بمواد معدنية، ومنحوتات على كثل الجبص المجفف، ورسومات لقصص الأطفال، ولوحات تشكيلية تضاهي تلك التي خلدتها أنامل الكبار عالميا، هي أعمال كثيرة توثق لمسار فنان أبدع تجارب أعمال رائعة وجدت مكانا لها على صفحات مجلات عالمية متخصصة.

 

بدايات مشاغب ولد فنانا وعاش مبدعا

ولد التشكيلي المبدع عبد الكبير البيدوري، بخلطة عجين فنية كونية، وكان منذ صغره ملاحظا مركزا على كل الأشياء، حيث استنتج من كل الرسومات التي كانت تلتقطها عينه "أنها تشكلت بمهارة أنامل وفرشاة مبدع"، كانت تستهويه حركة "هندسة الرسومات التي تدب فيها الحياة"، كان يقتفي خطوطها "المتعرجة والمتقطعة والمنجزة بسرعة وانفعال وتلقائية، لكنها دقيقة في إشارتها التي تمنح للعين حركية التخيل والإيحاء بانطباع فني راق دون تقيدها بخطوط محددة صارمة منغلقة على نفسها"، حسب تعبيره.

لقد عاش الفنان المبدع عبد الكبير البيدوري، طفولته في الحي الهامشي الشعبي المسمى بـ "الفورات" بمدينة اليوسفية، القريب من معمل تنشيف الفوسفاط، وحسب وصفه الخاص لهذا الحي يقول: "كان حي الفوارات عشوائيا، تستعصي أزقته على قواعد الهندسة، غير معترف به رسميا، بدون ماء ولا كهرباء مثل جميع أحياء المدينة، في هذا الحي ترعرعت". ويضيف بتعبير الفنان: "كان فصل الربيع يحول نواحي هذا الحي إلى زرابي من الأعشاب البرية، المزهرة والتي تدخل البهجة إلى النفوس، و بقدر ما كان فصل الصيف يمتص رطوبة جدران بيوت الحي، وألوانها الزاهية، بحرارته المفرطة، ورياحه الشرقية الجارفة، فيغطي غبار معمل التنشيف الأزقة والبيوت، ويعم الجفاف وتكثر السحالي والحشرات، فلا حجر إلا وتحته عقرب. هكذا كنت ألعب احيانا لعبتي الخطيرة في الواحة والمتمثلة في إزاحة الأحجار المتناثرة هنا وهناك، بحذر شديد بحثا عن عقرب...".

كانت صرخته الأولى بعد مخاض الوالدة رحمة الله عليها في قرية صغيرة من قرى منطقة السبيعات سنة 1951بإقليم اليوسفية، تلك الأم التي عملت كل ما في استطاعتها لتلبي رغبته الجامحة في اللعب الطفولي الاستثنائي بعد أن أستقر المقام بالعائلة بمدينة اليوسفية بحي الفوارات الهامشي، هي الأم البدوية التي ساعدت طفلها على تنمية قدراته الإبداعية وعبدت له الطريق ليكون فنانا حقيقيا، حيث اقتحم الطفل عبد الكبير في بداية مشواره الإبداعي عالم صناعة الدمى والحيوانات بواسطة نفايات الأقمشة التي يهبش عليها هنا وهناك: "كنت أجمع بقايا الثياب المتسخة (الشْرَاوَطْ) من مطارح النفايات، وآتي بها للوالدة التي تنظفها بالماء والصابون وتنشرها على حبال التجفيف تحت أشعة الشمس، ومن تمة اختلي مع نفسي لأعيد تدويرها وأصنع منها بمهارة بعض الأشكال والأجسام التي تستهويني كطفل".

 

وعن سؤال البدايات، وولعه الطفولي بفن الرسم، أوضح عبد الكبير لجريدة "أنفاس بريس" قائلا: "في بداية تعليمي بالمستوى الابتدائي بمدرسة بمدينة اليوسفية، كانت قد أحدثت من أجل أبناء الجالية الفرنسية خلال فترة الحماية (تم التخلي عنها لصالح المغاربة في بداية الخمسينيات)، كانت تتواجد عدة سبورات مستطيلة داخل القسم، لا يزيد عرضها على الأربعين سنتمترا تقريبا، وطولها يتعدى المتر ونصف، مثبتة على كل جدران قاعة الدرس بالإضافة إلى السبورة الرئيسية المستعملة من طرف المعلم. خلال حصة الفرنسية كان يستهويني مضمونها الجميل برسومات شُكِّلَتْ بواسطة الطباشير الملون بأنامل معلم الفوج الذي كان يتناوب مع فوجنا على نفس حجرة الدرس. لقد كان معلما رساما وفنانا رائعا بخيال واسع لا ينضب لها معين، وكان على امتداد السنة الدراسية يغير مشاهد رسوماته وفق الفصول الأربعة"، حسب قوله

لقد أحب "الطفل" عبد الكبير، خصوصا وأن والده كان مشجعه الأول قبل دخوله للمدرسة وقبل هجرة الأسرة من القرية نحو اليوسفية، حيث "كان يرسم لي والدي بقلم جاف على أوراق السجائر، ولما لاحظ اهتمامي الزائد بالرسم، اشترى لي دفترا وقلم رصاص لهذا الغرض ولم يكن سني بتجاوز بالكاد خمس سنوات"، لكن بالسنبة لعبد الكبير فـ "السبورات كانت بمثابة الصدمة الجميلة التي رفعت من مستوى حبي الطفولي للرسم فعوض مراجعة دروسي بعد عودتي إلى البيت أخذت أقضي كل أوقاتي في محاولة تقليد رسومات تلك السبورات، ثم تقليد رسومات الكتاب المدرسي". ولأن الظروف الاجتماعية كانت قاسية جدا فقد كان الطفل يجد "صعوبة كبيرة في العثور على أوراق الرسم، فأخدت أرسم على أية مساحة فارغة أجدها أمامي، كورق (الْكَارْطُونْ) المقوى أو ورق التلفيف بما في ذلك أكياس الإسمنت وما شابهها ".

 

تمر السنين، والأيام بحلوها ومرها وانتكاساتها وتحدياتها ويشتد عود الشاب الذي سيتحول إلى ماكينة للقراءة والرسم، "ماكينة" تلتهم كل ما يمر أمامها من أوراق وقصص وروايات ومجلات : "أدمنت على القراءة بشكل غريب رغم غياب الإمكانيات المادية، ومن حسن الصدف أن أحد أصدقائي (أكبر مني سنا) الذي كان لا يعرف لا القراءة والكتابة وكان يعمل بفران الحي كان مهووسا بالقراءة السمعية وكلما صادف كتابا يحتوي على رسومات اشتراه لي لكي أقرأه وأفسر له محتواه".

الحس الفني عند عبد الكبير البيدوري سيرتقي إلى عوالم مفتوحة على الواقع، تشتهي العين النظر فيها باستغراب (في زمن الراديو في انتظار تعميم التلفزة)، وكانت رسوماته تَشُدُّ إليها أنظار واهتمام أقرانه في القسم والمدرسة والحي، وتدرجت أنامله الفنية في استعمال الخطوط الهندسية التي تحول الأشياء إلى نسخ متطابقة في الشكل والمضمون: "أصبحت أتقن وأتفنن في الرسومات، وأحول صور الشخوص المرافقة للنصوص في الكتب المدرسية إلى رسومات تطابقها في كل التفاصيل الدقيقة، وانطلق المشوار".

 

فنان زاوج بين التدريس والعمل الفني

بعد اشتغاله بحقل التعليم، مارس التدريس في مادة العلوم الطبيعية، واستمر العطاء والإبداع في تناغم بنظرته ومنهجه العلمي للأشياء، حيث كان محرابه الفني خلوة للتعبد والزهد لترجمة أفكاره وأبحاثه وتكوينه في مجال الفن التشكيلي، ولم يبخل في تقديم دروسه الفنية النظرية والتطبيقية سواء داخل المؤسسات التعليمية أو بدار الشباب الأمل باليوسفية، رفقة الجمعيات النشيطة والنادي السينمائي، وتوسعت شبكة صداقاته العلمية والمعرفية والثقافية، وامتدت من نجد الكنتور باليوسفية نحو عدة مدن مغربية، وبصم عالمه الخاص بلوحات فنية تحدث عنها أكبر الفنانين وألمعهم في جميع الميادين وطنيا وعالميا.

وبالعودة إلى بعض محطاته الفنية فقد أقام عبد الكبير البيدوري أول معرض جماعي للوحاته الفنية في مدينة اليوسفية سنة 1972، ومضى في البحث والتكوين وصقل التجربة في حقل الفن التشكيلي ما بين سنة 1977 إلى 1985، فضلا عن إقدامه بعزيمة وإرادة مبدع على إقامة معرض جماعي سنة 1995 بـ "idou anfa"  بالدار البيضاء. وشق طريق العالمية برواق"artnet’s"   في العاصمة الفرنسية باريس حيث عرض إحدى لوحاته الفنية في المزاد. وفي سنة 2009 خصصت له مدينة "بيربينيان" الفرنسية معرضا بأحد معالمها التاريخية "palais des Rois de Majorque"، فضلا عن مشاركات في بأروقة معارض بعدة دول (إسبانيا وفرنسا...)، دون أن ننسى مساهماته في معرض جامعة محمد السادس بالرباط بدعوة من الأستاذة الجامعية المتخصصة والفنانة ريم اللعبي.

 

الفنان الذي تحدى المرض بأعماله التشكيلية

لأن الرجل فنان كبير، ومتسلح بالصبر، ويؤمن بكل ما هو جميل، فقد شكلت إصابته بمرض التهاب الشرايين على مستوى الأطراف السفلى، حيث اضطر لبتر ساقيه في سنة 2003 في مستشفى مدينة "اميان" الفرنسية، ووجد بجانبه زوجته الأستاذة لالة عائشة، وولديه معين وفؤاد، وبعض أصدقائه الأوفياء والمخلصين للصداقة بمعناه الإنساني خلال أزمته الصحية. واستطاع أن يحول "الإعاقة" العسيرة إلى منعطف جديد في حياته الفنية والإبداعية من داخل المستشفى بفرنسا فأحاطه الأطباء والدكاترة والممرضات والممرضين بالعناية اللازمة كفنان كبير من الواجب احترامه وتقديره. وسجل بعد ذلك حضوره الفني في أكبر المجلات المتخصصة في الأبحاث العلمية على المستوى العالمي .

لفنانا المبدع عبد الكبير البيدوري أعمال وتجارب فنية أخرى مجردة ومنجزة بواسطة القلم الجاف كوسيلة لاكتشاف عوالم مظلمة ومجهولة بدون بداية ولا نهاية، ترجمها بقلمه على الورق، تتحول إلى مساحات من الأشكال لا حد لها، هذا وقد حول ابنه فؤاد البيدوري رئيس فريق علمي بجامعة هارفارد كامبريدج بالولايات المتحدة الأمريكية مجموعة من أعماله الفنية إلى أثاث وملابس، وكان له الفضل أيضا في أن تستحوذ لوحة فنية تعبيرية من إنجاز والده إحدى أكبر المجلات الأمريكية المتخصصة في الأبحاث العلمية.

 

في العديد من حواراته الصحفية سواء داخل المغرب أو خارجه يؤكد التشكيلي عبد الكبير البيدوري على أن الفنان يجب عليه أن "يبدع أكثر مما يتحدث عن أعماله وأفكاره، لأنه يكتشف أكثر مما يبدع. وأعماله ليست بالضرورة أن تعكس وجهة نظر الفنان"، على اعتبار أنه كفنان مبدع: "لا أنطلق من الفكرة، فإذا كانت أعمالي عبارة عن فكرة فقط، فلم لا أكتبها وينتهي الأمر، لذلك أرى من واجب الفنان أن يبتعد عن مرحلة الذات وتوظيفها في الأعمال، وأن ينظر من حوله في هذا العالم المليء بالأشياء التي تستحق حقاً أن تصنف في خانة الفنان. اعتقد ان أعمالي هي بمثابة تراكم لسيرتي الذاتية، وحقيقة لا أعلم هل هي تعكس وجهة نظري ومواقفي"...