Thursday 26 June 2025
كتاب الرأي

إدريس الاندلسي: أعشق مراكش بغضب لأنها تستحق حكامة أفضل

إدريس الاندلسي: أعشق مراكش بغضب لأنها تستحق حكامة أفضل إدريس الاندلسي
معطى مالي وثقافي مهم:

وصلت مداخيل صندوق التنمية الثقافية برسم سنة 2023 حوالي 1.3 مليار درهم. تشكل مآثر مراكش أكبر مساهم في تمويل هذا الصندوق بنسبة تتجاوز 80%. وتستفيد منه بالشيء القليل جداً. وهناك تفاصيل عن المشاريع الممولة بأموال مراكش في كافة أنحاء الوطن. *(تقرير الحسابات الخصوصية للخزينة لسنة 2025).*
 
مراكش لا تغتني بمداخيل سياحتها ومآثرها التاريخية. ملايين السياح الواصلين إليها يصرخون بأصوات تنتقد محدودية خدمات مطارها. وسماء مراكش تشهد اكتظاظاً طيلة اليوم بين إقلاع طائرة وهبوط أخرى وضجيج محركات يصل إلى أغلب الفنادق. تحولت بيوت في أحياء شعبية إلى ملاذات لسياح أجانب فقراء تجبرهم مواردهم المحدودة على المبيت في غرف ضيقة، وتناول وجبات بعشر دراهم. وأنت تمشي في المدينة، تشعر أن السياحة بخير، وأن الملايير يسجلها مكتب الصرف. الأمر فيه كثير من العبث. كان الاختيار في السبعينيات يركز على استقبال السياح في الفنادق المصنفة، فأصبح عدد السياح أفضل من حجم مداخيلهم في 2025. يقع هذا في مراكش وفي مدن أخرى. وتبين الإحصائيات أن السائح المغربي لا يحصل على التأشيرة إلا إذا أدلى بشهادات تؤكد دخله وقيمة سكنه، ومستوى تأمينه الصحي. وسيظل المغرب يستقبل فقراء أوروبا دون تأشيرة ودون قيود.
 
والكثير من هؤلاء يقضون شهوراً في بلادنا، يصطادون السمك ويبيعونه. يملؤون فضاءات ارتكاز مركباتهم، وقد يشتغلون في بيع أرقى أنواع النبيذ المهرب في مخابئ مركباتهم بإتقان. ولا نفرض عليهم أي شرط، أو أية تأشيرة. افيقوا أيها المشرعون.
 
أجدني غير مرتاح كلما تجولت في أزقة وأحياء مراكش وأسواقها التي تحولت إلى اتحاد متراص يمشي في نفس الاتجاه. أصبحت كل الطرق التي تربط كل الأحياء بمركزها المتكون من ساحة جامع الفنا، وفضاء "مقدس" يربط صومعة الكتيبة بالأحياء المحيطة بها، متحدة خلف صورة لم تكن واحدة إلى زمن كان حياً منذ أقل من ثلاثة عقود. ضاعت كل مكونات الصناعات التقليدية التي كانت تؤثث المشهد الاجتماعي والاقتصادي في أسواق النحاسين، والصباغين، والتكموتيين (صناع الجواهر)، والبلاغية، وتجار الزرابي، وصناع الجلود، وغيرهم من منتجي الفن الراقي المرتبط بالمقاعد الجلدية المسماة "البووفة" التي لا علاقة لها إلا بفن الطرز والعلم الدقيق بمقاسات الزوايا فوق مادة صعبة على غير العارفين.
 
أرتاح نسبياً حين أرى أن ورشاً يهم ساحة جامع الفنا قد انطلق بجد وببرنامج تنفيذ قد يؤمن إعادة الوهج إليها بعد شهور. وأجدني متأسفاً على الدمار الثقافي الذي أصاب هذه الساحة بعد أن غابت مكونات الرأسمال اللامادي الذي تضمه هذه الساحة. حاولت مؤسسات متاحف المغرب تحويل المقر الجميل لبنك المغرب الذي يتوسط الساحة إلى متحف، ولكن الاستثمار كان أهم من نتائجه. صرفت الأموال لكي يتم تجميع ذاكرة مكان، ولكن النتيجة لم تكن في مستوى إعادة الروح إلى ماضٍ تولى. المتحف جميل ولكنه فقير على مستوى إعادة إحياء الصورة والصوت وتذكير مواطن أو زائر بماضٍ قريب جداً. وستظل ساحة جامع الفنا في ملك ثقافة السندويتش والعصائر وشيء يسير من تجارة سلع، قد تصبح بعد سنين، صينية الصنع، وغير ذات ارتباط بما تم تقليده وتشويهه من سجاد، وبلغة وفخار وفن تقليدي مغربي.
 
أصبح من الصعب أن تتجول في المدينة التي كانت تسمى بالحضرة المراكشية. قد تجتاز دروباً وزقاقاً، وتجتذبك أبواب رياضات ومتاجر من الطراز الرفيع، وأخرى تعد بالعشرات والمئات، وقد تخفي عنك مداخل ضريح سيدي عبد العزيز التباع، ضريح "مول القصور الغزواني"، وقد لا تثيرك روائع الزخرفة على الخشب التي تميز "سقاية اشرب وشوف". قد تمر بمدخل حومة "المواسين" ولا ترى تلك المعلمة التي كانت تشكلها "سقاية المواسين". ونفس التغييب يطال السقاية التي توجد خلف مسجد باب دكالة. ويجب التذكير أن هذه المعلمة تاريخية بامتياز تجاوز عمرها ستة قرون. ولأن النساء كن، عبر حقب التاريخ، ذوات مبادرات خلاقة، فقد بنت السيدة الحرة ميلودة التزكيطية ذلك المسجد الكبير. ويجدر بالذكر، حسب المؤرخين، أن هذه السيدة هي والدة الملك أحمد المنصور السعدي.
 
وتظل مراكش اليوم تحجب تاريخها بحاضر يخاطب البطون والدود عن مسارات تؤدي إلى اغتناء سريع وغير منتج لكثير من الوصوليين المتحزبين نفاقاً.
 
أصبحت المطاعم الشعبية تصنع "مذاقاً" جديداً يصل إلى جيوب سياح أجانب فقراء في المظهر. تستولي هذه المطاعم على كل الطرق المؤدية إلى مركز المدينة القديمة. ولا حاجة إلى إثارة انتباه المسؤولين على مستوى حماية المستهلك من التسمم الغذائي. نوجد على أبواب تظاهرات رياضية، ووصول جماهير من دول كثيرة قد تكون راغبة في تناول وجبات الأكل السريع الموجود في الشوارع والأزقة. ولا يمكن أن لا نتوقع حدوث التسممات الغذائية أثناء إجراء مباريات كأس أفريقيا أو كأس العالم. ويظل الأهم هو أن مراكش "العالمية" أصبحت تتميز بكونها عاصمة السياحة لفقراء العالم. ولن يدخل مهندس ولا طبيب ولا مقاول وإطار عال مغربي إلى دول "شنغن" إلا إذا قدم البرهان والوثيقة على أنه ذو دخل يفوق دخل المواطن الأوروبي، وأنه يحمل معه وثيقة حجز فندقي، وأموال كثيرة. يحصل هذا في وقت يزدحم فيه آلاف الأجانب في محطة وصول مطار المنارة. يشتكون من الازدحام، ومعاملة سائق الطاكسي. وحين يخرجون يتجهون إلى النوم جماعة في غرفة لا يتجاوز سعرها عشرين يورو. ويقصدون عند الصباح مطعماً شعبياً لا يكلفهم أكثر من يورو واحد كتكلفة فطور بالبيض و"الخليع" وكأس شاي وزيتون وعصير. ولا نجد من يدافع عن سمعة البلاد، ويحصّنها من آثار سياحة لا فائدة منها. كفى من شعار "المغرب المنفتح على الجميع". نريد أن تكون السياحة ذات مردود اقتصادي حقيقي. لا يجب أن نضع الأهداف بمنطق عدد السياح، ولكن بقاعدة مجموع مداخيل القطاع ككل. افتخر مسؤولو السياحة بارتفاع عدد السياح بأكثر من 22%، ولم يعلقوا على التأثير الضعيف لهذا الارتفاع على مستوى المداخيل التي لم تتجاوز 2.4% خلال الأشهر الثلاثة الأولى لسنة 2025. وهذا مؤشر خطير بكل المقاييس. نريد أن نكون اقتصاداً صاعداً، وليس مجرد مؤشر قابل لقراءة لا تؤثر على معدلات التنمية.
 
هربت من الازدحام في سوق السماريين مروراً "بالرحبة القديمة"، ثم الرجوع إلى ما كان يسمى "بسوق الصباغين"، وأصحاب المهن المتعلقة بصناعة النحاس. وما من مراكشي أصيل قد ينسى تلك الإيقاعات التي تحدثها مطارق معلمي "النحاس" على الأسماع بمجرد الخروج من سوق الصفارين. وعند باب هذا السوق، تصطف بعض الدكاكين التي كانت مختصة في كل العقد والخيوط التي يحتاجها "المعلمون" في خياطة الجلباب والقفطان والدراعية، والسروال القندريسي، وغيرها من الفنون الجميلة، لتتحول إلى متجر يقدم سلعاً أصبح يبيعها أصحاب مئات من الدكاكين الصغيرة. صحيح أن هذا التشويه الذي أصاب مراكش يمكن بعض الفئات من دخل يومي في إطار اقتصاد غير مهيكل، لكن التنمية تحتاج إلى تنزيل سياسات، وحكامة تغير الواقع ولا ترمي إلى التعايش مع مظاهر الهشاشة وهدر إمكانيات صنع الثروة.
 
ويظل عشق مراكش يدفعك إلى أن تبحث عما يحيي فيك أملاً في مستقبل. فرحت كثيراً حين زرت ورشين يتعلقان بمراب أول قرب ساحة البريد، والآخر قد يفتتح في عرصة المعاش. ولكن الساحة الكبيرة لباب دكالة تظل نقطة سوداء في النسيج المعماري والتاريخي لمراكش. أشعر بحزن كبير حين أرى كل مظاهر التخلف تسكن هذا المجال الذي يوجد بالقرب من أسوار مراكش التاريخية. باب دكالة أصبحت، بفعل الفوضى التي تسكن اقتصادها، ومعمارها وتراجع مستوى نظافتها، ومسافة بعدها عن حضارة مدينة كانت عاصمة إمبراطوريتين، عبارة عن نقطة سوداء في قلب مراكش. غلبت على أمرها مجالس مراكش الترابية وكذلك العمال والولاة. تم بناء محطة طرقية عصرية قبل أكثر من أربع سنوات، وظلت طريق الوصول إلى التنفيذ مكبلة بقيود لا يعرف من يتحكم في قرار حسم مصير استثمار كبير في ظل قرار غائب وخوف من ردود فعل مفترضة. وفي انتظار انعتاق باب دكالة من تخلف يرجعها إلى قرون مضت، لا يزال المراكشيون وخصوصاً أصحاب الخبرة، وأصحاب الغيرة على المدينة، وذوي "البطون الفارغة من الحرام" يغيبون، مضطرين غير مخيرين عن عراك يؤدي بهم إلى مركز القرار. ويرتكز المتحكمون على "متعطشين للثروة" يقبع جلهم في السجون. وستتواصل مسيرة محاسبة الفاسدين الذين يغتنون بدون وجه حق. يظهر أن سجن مراكش قد يستقبل من تسببوا في عدم إقلاع التنمية في هذه المدينة العريقة.
 
قال لي أحد حكماء المدينة أن إحدى مشكلات مراكش تكمن في غياب المراحيض العمومية. وأؤكد، بحكم مولدي بهذه المدينة العظيمة، أن الوصول إلى المراحيض كان يسيراً، وذلك لأن الأجداد كانوا يعيرون لمبدأ النظافة أهمية تكاد أن تكون مقدسة. ولا يمكن عدم ربط هذا المعطى الموضوعي بتطور قطاع السياحة، وكذلك بالتزامات المغرب الرياضية القارية والعالمية. أؤكد أن الإرادة عنصر أساسي في تغيير الواقع.
 
وتظل المراحيض العمومية موضوعاً يشغل كل من له موقف من مراكش كقطب حضاري متجذر في التاريخ. يعرف المراكشيون ذوو الجذور أن كل الحومات كانت لها مراحيض عمومية سواء كانت متعلقة بمسجد، أو مفردة كمرفق عمومي. وأتذكر كثيراً من هذه المرافق في كثير من أحياء المدينة. وقد تصل القدرة على الاستهانة بهذه القضية إلى حد الاستهزاء من طرف من سيطروا على مؤسسات المدينة وضعفها، أي ضعفهم، على صنع بديل لرفع الحرج على أجيال من أبناء مراكش. وليس كل أبناء الحمراء ممن يستغلون شعار: "ديما كوكاب" لضمان حضور في مضمار السياسة. سيشكل المستقبل القريب ثقيلاً على أصحاب الوعود والخطابات الرنانة. وسيظل الهم الوطني فوق كل الوعود. يعرف كل من ساهم في صناعة خارطة سياسية أن الأمر له علاقة مع الأخلاق أولاً وأخيراً. بدأت المؤامرة التي تعرضت لها المدينة الحمراء بعد أن هجم على مؤسساتها الترابية سرب من قليلي التكوين والخبرات. حدث بها كل هذا، وكل السلطات المكلفة بالوصاية تتفرج منذ أن صارع الوزير البصري من أجل تنزيل قانون تنظيم الجماعات الترابية سنة 1977. ظهرت كائنات صنعتها الإدارة، وتطور إيقاع الصنع المنفتح على كل الممارسات التي أوصلتنا إلى هذا اليوم الذي أثقلت فيه ملفات الفساد كل هيئات الرقابة، والمحاكم المالية.
 
ستظل مراكش محتاجة إلى تنظيف ساحاتها من سماسرة العملية الانتخابية. يقول زعماء اليوم أن نخبة مراكش تستخف بالممارسة السياسية. ينتظرون من المثقفين أن ينزلوا إلى حضيض التراشق بالسباب، وتعريض عائلاتهم إلى الاعتداء النفسي الذي يمكن أن يتطور إلى الاعتداء الجسدي. ويتطور الخطاب حول الديمقراطية في مسار مناقض للأهداف التي سطرتها مقتضيات دستور 2011. وتمر السنوات سريعة بين انتخاب وآخر، ويظل المسيطر المدعوم، والذي لا يخضع لأية محاسبة، هو صاحب الأمر. وهكذا ضيعنا زمناً سياسياً جعل بلادنا تفقد كثيراً من المسافات المؤدية إلى التنمية. شاهد أبناء جيلي صوراً عن حرب في فيتنام انتهت بانسحاب أمريكا سنة 1971. وأصبحت هذه البلاد، التي أطلقت عليها كل أنواع القنابل الأمريكية، تحقق ناتجاً إجمالياً خاماً بقيمة 500 مليار دولار. ولم يتجاوز نفس هذا الناتج في بلادنا 160 مليار دولار في سنة 2024. وتظل مشكلتنا هي حكامة لا تنتج الثروات، ولا تحمي ثروات البلاد، ولا تقضي مطلقاً على اقتصاد الريع، ولا تنتج سلاحاً فتاكاً ضد الفساد. مراكش تحتاج إلى جيل جديد من الفاعلين السياسيين الذين يؤمنون بالمحاسبة، وتقديم نتائج عملهم أمام السكان، وإذا اقتضى الحال، أمام القضاء.