الثلاثاء 23 إبريل 2024
كتاب الرأي

عبد المجيد طعام: المدرسة العمومية تحت مجهر القراءة السوسيولوجية.. السلطة والمدرسة أية علاقة؟

عبد المجيد طعام: المدرسة العمومية تحت مجهر القراءة السوسيولوجية..  السلطة والمدرسة أية علاقة؟ عبد المجيد طعام
 
مع بداية الاستقلال، كانت النخبة السياسية والفئات الشعبية تتقاطع في بعض المصالح والانتظارات .. كانت النخبة الحاكمة تسعى إلى مغربة الأطر في الوظيفة العمومية، خلقت المدرسة العمومية لتلبية هذه الحاجة، لكن سرعان ما ستصاب بأعطاب كثيرة، ستتفاقم مع توالي الحكومات، إلى أن وصلت إلى ذروة أزمة خانقة، لم يعد ينفع معها أي علاج.
كل الحكومات التي تعاقبت على تسيير الشأن العام واشتغلت على تفصيل غايات المدرسة العمومية، لم تتخل عن شعارات فجر الاستقلال، كانت تضع على واجهة سياستها الداخلية المبادئ الأربعة للتعليم: التعميم والتوحيد والتعريب ‏ومغربة الأطر، في نفس اللحظة التاريخية، كانت الطبقات الاجتماعية الهشة تعقد آمالا كبيرة على المدرسة العمومية، كانت ترى فيها وسيلتها الوحيدة لتحقيق مكاسب اجتماعية ..
كانت المدرسة العمومية تصب مباشرة في الوظيفة العمومية، فجأة توقف كل شيء، تحولت المبادئ الأربعة إلى مجرد ديكور يزين الحملات الانتخابية لأحزاب لا تحمل أي مشروع مجتمعي، وتحول الحديث عن العلاقة بين التعليم والوظيفة إلىمجرد خطاب سياسوي في ثوب شعبوي الغرض منه استمالة الكتلة الناخبة وتأجيل الانتظارات، وامتصاص غضب الطبقات الشعبية التي فقدت ثقتها في المدرسة، خاصة وأن الحكومات أصبحت تنظر إلى الوظيفة العمومية وكأنها سرطان ينخر ميزانية الدولة ويحول دون الاستفادة من المزيد من القروض.
دخلت المدرسة العمومية زمن الأزمات الخانقة، للتخفيف من آثارها، فتحت أوراش الإصلاحات الكبرى لكنها لم تكن ذات جدوى، التهمت أموالا كثيرة دون أي نتائج ملموسة، كما حصل مع ورش الميثاق الوطني للتربية والتكوين (1999-2009) ثم البرنامج الاستعجالي (2009-2012)، الورشان معا التهما أمولا طائلة، الخطير في الأمر أن المسؤولين كانوا ينتقلون من ورش إلى آخر دون الانتهاء من الورش السابق ودون دراسة النتائج التي تحققت والأخرى التي لم تتحقق.
ظلت ولا زالت المدرسة العمومية ورشا مفتوحا ، إلى أن ارتفعت الأصوات الداعية إلى ضرورة أن ترفع الدولة يدها عن المدرسة العمومية باعتبار أنها أصبحت تمثل عبء على التنمية والتوازنات الماكرواقتصادية ،فهاذا بنكيران رئيس حكومة 2016 يقول :" حان الوقت لكي ترفع الدولة يدها عن مجموعة من القطاعات الخدماتية، مثل الصحة والتعليم، فلا يجب أن تشرف على كل شيء، بل ينبغي أن يقتصر دورها على منح يد العون للقطاع الخاص الراغب في الإشراف على هذه الخدمات".
تصريح بنكيران واضح، لا يحتاج إلى تأويل، هو دعوة صريحة للتخلي عن المدرسة العمومية والاهتمام بالقطاع الخاص ولعلنا نلتقط هذه الإشارة أكثر من القولة الصادمة للحسن الداويدي وزير التعليم العالي في حكومة بنكيران حيث قال "اللي بغا يقري ولادو يدير يدو فجيبو"
عرفت المدرسة المغربية تحولات سريعة، لم يكن المجتمع مهيأ لها، استقر في مخيالنا الشعبي أن المدرسة هي أداة التسلق الاجتماعي، والهروب من منطقة الهشاشة لكن النخبة الحاكمة كان لها رأي آخر يختلف عن انتظارات الفئات الشعبية، ستنزع النخبة من المدرسة العمومية المعنى والجدوى، ستجعل منها مجرد أداة لإعادة إنتاج المجتمع، بكل أطيافه وتناقضاته، وبكل علاقات الاستغلال المتحكمة فيه.
ونحن نحاول أن نخضع المدرسة العمومية للقراءة الاجتماعية بالحديث عن أعادة الإنتاج، علينا أولا أن نأخذ بعين الاعتبار قيمة الرصيد الثقافي للأفراد لأنه يمثل العنصر الأساسي المساهم في رقي المدرسة، بل يعد عاملا من عوامل النجاح المدرسي.
إن الاهتمام بالرصيد الثقافي يساعدنا على تجاوز التحليل العامي السطحي الذي يتحول إلى خطاب ضحل، يحمل التلميذ وحده مسؤولية تردي الوضع التعليمي، إذ يعتقد أصحاب هذا الخطاب الشعبوي، أن أمر التميز في المدرسة مرتبط فقط بموهبة التلميذ، وأداء الواجبات المدرسية ولكن ما لا يغفلونه عن قصد أوجهل هو التأثير الكبير للميراث الثقافي للأسرة على النتائج المدرسية.
يسمي بورديو ميراث الأسرة، الرأسمال الثقافي، ويؤكد على ضرورة الأخذ بعين الاعتبار المستوى التعليمي للوالدين، وأنواع الاستهلاك الثقافي داخل البيت. إن البيئات التي لها رأسمال ثقافي مهم هي التي تمنح أطفالها فرصا أكثر للنجاح، فمن المرجح أن ينجح أطفال هذه البيئات أكثر بكثير من الأطفال الآخرين الذين لا تملك أسرهم أي رصيد ثقافي، طبعا نحن لا نعدم إمكانية أن ينجح أطفال ينتمون إلى الطبقات الدنيا، لكن النسبة قليلة جدا والآفاق ضيقة، لأن المدرسة في كل الأنظمة الرأسمالية تسعى إلى إعادة إنتاج المجتمع لتضمن النخبة هيمنتها على وسائل الإنتاج وتعيد إنتاج نفس علاقات الاستغلال.
قام عالم الاجتماع بيير بورديو ومنذ ستينيات القرن الماضي بتحليل ظاهرة المدرسة وعلاقتها بإعادة الإنتاج وتعتبر قراءات هذا السوسيولوج رائدة في هذا المجال لذا سنعتمد عليه لفهم ما يقع بمدرستنا المغربية ولنجيب عن سؤالين محوريين: هل المدرسة المغربية تعيش فعلا أزمة؟ هل تحولت مدرستنا العمومية إلى مكينة لإعادة إنتاج المجتمع؟
إن الحديث عن إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية عن طريق المدرسة يدفع إلى الحديث عن مفهوم محوري جاء به بورديو ،هو الأبيتوس Habitus ويمكن تعريفه بأنه نسق من الاستعدادات المكتسبة التي تحدد سلوك الفرد ونظرته إلى نفسه وإلى العالم الذي يحيط به، هو أشبه ما يكون بطبع ونمط تفكير الفرد ،وهو العقلية التي تسود في الجماعة لتشكل منطق رؤيتها للواقع والعلاقات المتحكمة فيه، من هنا يمكن القول بأن الأبيتوس ،يفسر كيف أن عمليات التعلم الاجتماعي،عن طريق الأنساق التربوية تتحكم في أشكال الإدراك و السلوك لدى الأفراد ، وكأننا أمام حتمية اجتماعية وإنتاج لسلطة تربوية قادرة على الاستمرار بعد توقف الفعل والعمل البيداغوجي..
بواسطة مفهوم الأبيتوس قام بورديو ببناء تحليل لآليات إعادة إنتاج التسلسلات الهرمية الاجتماعية، في ظل توزيع غير متكافئ للرأسمال الثقافي واللغوي ،كما شرح كيف ولماذا لا نتساوى في مواجهة المواقف ،وكيف لا يحالف النجاح جميع التلاميذ وكيف أن فكرة تكافؤ الفرص مجرد كذبة.
بما أن المدرسة المغربية لا تخرج عن أعراف المدرسة الرأسمالية فإننا نجد في قراءة بورديو للمدرسة الفرنسية ما يمكن أن نستنير به خاصة وأن مدرستنا العمومية مرت بمرحلتين أساسيتين ، في المرحلة الأولى تم توظيفها كمشتل لإنتاج الموظفين الذين احتاجتهم الدولة ، وفي المرحلة الثانية تم توظيفها لإعادة إنتاج نفس العلاقات الاجتماعية ،وضمان استمرار هيمنة النخبة على وسائل الإنتاج.
لقد عمل صانعو القرار السياسي ،على جعل المؤسسة التعليمية وسيلة طيعة يتحكمون فيها ،لإعادة إنتاج أوضاع تراتبية في المجتمع المغربي ، ذلك أن النظام التعليمي المغربي لا يساهم في خلق حراك اجتماعي تفاعلي ، بالاعتماد على تقاسم عادل للرأسمال الرمزي ، لخلق تكافؤ للفرص ، بل يقوم على إعادة إنتاج نفس الوضعيات الاجتماعية، يضمن فيها للمحظوظين ثقافيا ولغويا و ماديا واجتماعيا ومؤسساتيا وسلطويا ، تعليما وتكوينا جيدا ، يتيح لهم فرص الهيمنة على مراكز القرار ، بينما لا يهتم بالمحرومين ، الذين يعيشون أوضاع الهشاشة الاجتماعية والمادية والفقر الثقافي واللغوي ، نظام تعليمي لن يتيح لهم أية فرصة لتسلق السلم الاجتماعي ،سيواجهون مصيرا قاسيا ،يوجهون نحو العمل اليدوي البسيط ، وفي أحسن الأحوال يتقلدون وظائف بسيطة أو وضيعة .
لقد اقتصرت وظيفة المدرسة المغربية على إعادة إنتاج نفس العلاقات الاجتماعية واستنساخ نفس المجتمع بفوارقه الطبقية ،دون العمل على إعادة تشكيلها وبنائها ، وهكذا ستتجه كل الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال نحو اختيارات ضربت المدرسة العمومية في مقتل .
كان اختيار التعريب منذ 1978 يمثل اختيارا استراتيجيا لدى النخبة الحاكمة ، تم تطبيقه بالتعليم الابتدائي فالإعدادي ثم الثانوي ولم يصل أبدا إلى الجامعة . مثل التعريب تحديا كبيرا رفعته الدولة مباشرة بعد الاستقلال ،لكن العمل به لم يعتمد على أية رؤية مستقبلية واضحة ، تم تطبيقه بالمدرسة العمومية ، بينما حافظت مدارس البعثات الأجنبة والمدارس الخاصة على تميزها وثرائها اللغوي الأجنبي ،الفرنسي والإنجليزي.
بسبب هذا الاختيار المجحف ،سيعيش أبناء الطبقات الشعبية تيها وانفصاما في الشخصية بين التعليم الثانوي المعرب والجامعي المفرنس ،وكانت تداعيات ذلك جد سلبية على التعليم الجامعي إلى درجة أصبحنا نجد حاملي الباكالوريا علوم رياضية يسجلون في كلية الحقوق وكلية الآداب ومنهم من لجأ إلى شعبة الدراسات الإسلامية لأن خريجي المدرسة العمومية يعانون من فقر مدقع في رأسمالهم الثقافي والمعرفي واللغوي .
لم تعد المدرسة العمومية تمكن التلاميذ من أي إرث رمزي وثقافي ومعرفي ولغويي ، برامج مستهلكة وشعب جامدة ومدرسون أصابهم الفقر المعرفي والبيداغوجي ،وأنهكهم نضال المطالبة بحقوقهم المشروعة ، غابت الرأسمال اللغوي وحضرت داخل حجرات الدرس الدارجة ،إذ أصبحت تقدم جل الدروس بالدارجة حتى حصص اللغات الأجنبية لم تسلم من استعمال لغة الخطاب الدارج ،وقد أشار بورديو إلى أن الرأسمال اللغوي يصنع الفارق بين أبناء الطبقات الاجتماعية ، التلاميذ الذين لا يملكون رصيدا لغويا ثريا لن ينجحوا أبدا وإنما سيكونون عرضة للهدر المدرسي . إلى جانب معضلة غياب الرأسمال الثقافي والمعرفي واللغوي بالمدرسة العمومية ،فقد لعب النفاق السياسي والاجتماعي دورا خطيرا ، حيث لوحظ أن أشد المدافعين عن التعريب هم من يدرسون أبناءهم بمدارس البعثات الأجنبية والكثير منهم يحملون جنسيات مزدوجة .
منذ الاستقلال حاولت النخبة السياسية أن تلبس المدرسة العمومية لباس الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص لكنها في حقيقة الأمر عمقت الفوارق الطبقية بين أبناء الشعب الواحد ، ووزعت الأدوار والمهام حسب طبيعة التعليم الذي يتوفر لكل طبقة اجتماعية ، تم توجيه الفقراء نحو المدرسة العمومية المنهكة بالمشاكل ،و الطبقة المتوسطة نحو المدارس الخاصة ،و الطبقة الأرستقراطية نحو مدارس البعثات الأجنبية ،فرنسية وأمريكية ... إلخ وعلى ضوء نوع التعليم وما يمثله من رأسمال رمزي ،يتم توزيع الأدوار، حيث سيتقلد أبناء مدارس البعثات الأجنبية المناصب العليا ويصلون إلى مراكز القرار ،بينما يشغل أبناء المدارس الخاصة مناصب راقية في المؤسسات الخاصة، فيما يبقى مصير أبناء المدارس العمومية مجهولا ،في غالب الأحيان سيعيشون البطالة، في أحسن الأحوال سيشغلون وظائف متوسطة أو بسيطة، أو مهن يدوية أو موسمية في معامل الرأسمال، أما الذين سيحصلون على الباكالوريا ،ستكون الجامعة ملادهم ،يقضون فيها بضع سنوات ثم ينسحبون ،مع العلم أن الهدر الجامعي جد مرتفع في بلادنا ، من حالفه حظ الحصول على إجازة من كلية الآداب مثلا سيجد البطالة تتربص به إلى أن يبتسم له الحظ من جديد فيلج مركزا من مراكز تكوين مهن التعليم ،ليتخرج أستاذا متعاقدا ،يعيش قلقا دائما ،ويقضي أزهى سنوات عمره محتجا يطالب بالإدماج في الوظيفة العمومية ... وهكذا تبدأ دورة إعادة الإنتاج من جديد... ذلك هو حال مدرستنا وتلك هي سلطة الأبيتوس التي تعمل على إعادة إنتاج نفس المجتمع بكل تناقضاته وتفاوتاته مع تغييب الصراع الطبقي وتقديم النظام الهرمي للمجتمع على أنه النظام الوحيد الممكن.