Monday 16 June 2025
كتاب الرأي

رشيد صفـَـر: حين يسألُ المدرب الطفل : "ماهي مهنة أبيك !؟" ..

رشيد صفـَـر: حين يسألُ المدرب الطفل : "ماهي مهنة أبيك !؟" .. رشيد صفـَـر
في حوار صحفي أثار اهتمام المتتبعين للرياضة والشأن التربوي، صرّح أحد اللاعبين أن فترة طفولته في عالم الكرة، لم تكن دائما فرصة للتدريب واللعب والتكوين، والتعبير عن القدرات الفنية والتقنية، بل كانت تتميز كذلك بسؤال غريب وغير بريء. وهو سؤال يظل راسخا في ذاكرة الطفل، و حسب تصريح هذا اللاعب، فقد تكرّر هذا السؤال في الماضي على لسان مساعد مدرب، أصبح اليوم من الأسماء المعروفة في الساحة الرياضية وليس هذا السؤال سوى :
"فين خدام باك ؟" ... أي : "ما هي مهنة والدك !؟".

قد يبدو هذا السؤال عاديا في الظاهر، لكنه يخفي وراءه حمولة نفسية، واجتماعية، وتربوية تستحق التفكيك والتحليل، خاصة عندما يُوجَّه إلى طفل صغير جاء للنادي أو الجمعية ليمارس هوايته، لا ليبوح للمدرب وزملاءه بشريحته الطبقية.
قد يبدو للبعض سؤال "أين يعمل والدك؟" فضوليا أو حتى ودودا، لكن في السياق الرياضي والتربوي، وخصوصا عندما يُطرح على طفل، تتحول البراءة إلى آلية فرز اجتماعي غير معلنة.

ما الغاية من معرفة مهنة الأب !!؟..

هل المدرب بصدد تقييم المؤهلات الجسدية والفنية أم يبحث عن الخلفية الطبقية !؟.
هل يربط بين إمكانات الطفل الرياضية و وضعه الاجتماعي؟ ..
في حال كان الأب "عساس" أو "عامل بناء"، أو عاطل، هل سيتغير سلوك المدرب تجاه الطفل، مقارنة بمن والده "رجل شرطة" أو "طبيب" أو "مدير بنك" أو "محامي" أو "قاضي" !؟...

حسب عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، فإن الرياضة ليست فقط نشاطا بدنيا، بل فضاء يعيد إنتاج الفوارق الطبقية. فالطفل القادم من وسط شعبي، غالبا ما يُواجه بنظرة نمطية أو يُحكم عليه مسبقا بأحكام جاهزة وظالمة، حتى في الفضاءات التي يُفترض أن تكون مفتوحة للجميع مثل ملاعب الكرة، التي ترتكز على المساواة في التعامل ورصد جدية الطفل وموهبته وانضباطه، عوض تصنيفه بمعايير، لا يمكنه التدخل لتغييرها كالطبقة الاجتماعية والسكن ومهنة الوالدين وعدد الإخوة، وهي معلومات يمكن أن يدونها الأب أو الأم أو ولي الطفل في استمارة الانخراط بالنادي، وتبقى في أرشيف الإدارة بعيدا عن رقعة التدريب.

السؤال عن مهنة الأب، ليس مجرد استفسار، بل قد يتحول إلى شكل من أشكال العنف الرمزي الذي يمارسه "المؤطر" على الطفل، إذ يُذكره بطريقة غير مباشرة بموقعه الاجتماعي، ويضعه ضمن تصنيف غير معلن ومعلن في الكثير من الحالات :
"هذا الطفل من عائلة فقيرة، لا يُعوَّل عليه"، أو "هذا الطفل والده له منصب رفيع، يمكن تحقيق منفعة خاصة من خلال تفضيله عن الآخرين".

في العمق، يتحول هذا النوع من الأسئلة إلى أداة فرز اجتماعي، تُساهم في تكريس الفوارق بدل تجاوزها، وتُؤسس لعلاقة غير متوازنة بين المؤطر والمتدرب، إذ يمكن أن تُبنى عليها العلاقة بين النادي والطفل، عوض أن تتأسس من خلال تقييم الكفاءة أو الاجتهاد وتطوير القدرات .. فتطفو الرمزية الطبقية على فلسفة النادي.
هكذا يُغرس في ذهن الطفل أن قيمته لا تُقاس بما يقدمه داخل الملعب، بل بما يحمله اسمه وانتماءه الاجتماعي من خلفية أسرية، وهو ما يُقوض مبدأ المساواة ويُشوش على النمو النفسي والتطور البدني للطفل.

في سن الطفولة، يشكل المدرب أو المؤطر شخصية مرجعية في حياة اللاعب الصغير. كل كلمة يقولها، كل سؤال يطرحه، تُسجَّل في الذاكرة وتُساهم في بناء تقدير الذات لدى الطفل.

حين يسأل المدرب الطفل عن مهنة والده، يشعر هذا الأخير أنه موضوع "تقييم غير رياضي"، وقد تبدأ الأسئلة تحوم في ذهنه:
– هل هو يشك في أنني غير قادر على المنافسة لأني من أسرة فقيرة ؟
– هل وجودي هنا مرتبط بمكانة والدي؟
– هل سأتعرض للعقاب والإقصاء، إن لم ابن شخصية ذات نفوذ اجتماعي ؟ ..
وهكذا يدخل الطفل في صراع هوية صامت، بين ذاته كمشروع لاعب يحلم بالتألق والتفوق على أقرانه، وبين السياق الاجتماعي الذي يُفرض عليه.

في المنطق التربوي، يفترض أن تكون البيئة الرياضية بيئة محايدة ومشجعة، تنبني على المساواة بين الأطفال، بصرف النظر عن خلفياتهم العائلية.
دور المدرب أن يلاحظ القدرات لا الظروف، أن يُنمّي الكفاءة لا أن يستقرئ الوضع العائلي.

لكن الواقع يكون في كثير من الحالات مختلفا عن فلسفة المساواة. فبعض المدربين، خاصة من كانوا لاعبين قُدَماء لم يمروا بتكوين تربوي، يحملون معهم بقايا ثقافة تمييزية، تعكس عدم الوعي التربوي والنفسي، فيخلطون بين مهام المدرب والمصلحة الخاصة.

ما تحتاجه منظومة الرياضة ليس فقط مدربين يفهمون التكتيك، بل مؤطرين مكوَّنين في علوم النفس والتربية والاجتماع. فتعاملهم مع الأطفال لا يقل خطورة عن تعامل الأستاذ في القسم أو المربي في الروض مع التلاميذ.

من البديهي أن أي سؤال يخرج عن نطاق الرياضة، خاصة إذا مسّ الحياة الشخصية للطفل أو أسرته، هو سؤال مرفوض تربويا وأخلاقيا.

حين يُسأل الطفل: "فاش خدام باك ؟"، فإنه لا يُسأل فقط عن وضع والده، بل يُمتحن كذلك حول أحقيته في الحلم واللعب أو هكذا سيفهم الطفل الاستفسار الموجه إليه. فهذا السؤال الصغير قد يُنتج عُقدا كبيرة، ويقبر المواهب التي يمكن أن تتطور مع التدريب والتأطير، فالرياضة الحقيقية هي التي تكسر الحواجز الطبقية، لا التي تكرس التمييز بين طفل العائلة الغنية وطفل العائلة الفقيرة.. والمدرب الحقيقي هو من يرى في كل طفل مشروع نجم، لا مجرد ابن موظف أو عامل أو عاطل..
على كل مؤطر للأطفال سواء في المدرسة أو مركز التكوين المهني أو الرياضي أو الجمعيات والنوادي، أن يعلم بأن القيمة الإنسانية للطفل ليست في مهنة الأب والشريحة الاجتماعية لعائلته ولا في النسب، بل في العمل والاجتهاد والانضباط والأدب.
وكما قال الشاعر :
كن ابن من شئتَ واكتسبْ أدبا ... يُغنيكَ مَحْمُودُهُ عن النسبِ".