الأحد 19 مايو 2024
مجتمع

محمد سالم إنجيه: مذكرات الحج... رحلة الذكر والشهود (13)

 
 
محمد سالم إنجيه: مذكرات الحج... رحلة الذكر والشهود (13)

- وداع مهوى الأفئدة:

يأبى الزمن إلا الطي، فتتسارع خطواته مؤذنة بالفراق، فتغرز سهامها في قلب كل مشتاق، وتتهيأ الوفود للرحيل بأجسادها، مخلفة وراءها مهوى أفئدتها، ومصطحبة صورا ومشاهد تبقى عالقة بالذهاب مهيجة ومثيرة للأشواق، وحاملة بإذن الله تعالى الموفق السعيد على سلوك سبيل الاستقامة بعدما من الكريم بالمغفرة؛ فطوبى لمن داس بقدمي العزم والإصرار على كل مظاهر التفريط، وسما بنفسه إلى لزوم الطاعات، وتجديد العلاقات والصلات؛ بترك أهل الأهواء والشبهات، ومصاحبة أهل الفضل والخيرات...

هنا انطلاقة التوجه لاستئناف عمر جديد قوامه التوبة النصوح، والتنافس في العمل الصالح حتى يلقى صاحبه الله بوجه مشرق صبوح...

الوداع بعد الإلف صعب تحمله، لكنها أقدار الله التي قضت بجعل نهاية لكل بداية؛ طبعا إذا نظرنا بعين الربح والخسارة، -فمن فضل الله تعالى وجميل كرمه-، حال الحاج قبل إتمام حجه غير حاله بعده،  ولعل هذا من أعظم الأسباب التي تعين على تحمل لحظة الوداع...

يجب على الحاج قبل مفارقته حرم مكة الطاهر، عائدا إلى موطنه، أن يكون آخر عهده بالبيت؛ فطوافه يسمى طواف الوداع، يأتي به مستقلا، وقد يكون طواف الإفاضة متضمنا للوداع إذا أخره لشغل أو تجنبا لزحام، المهم أن يطوف بالبيت قبل سفره...

في طواف الوداع تعرض للمرء مشاعر مختلفة، ويشاهد مظاهر متنوعة من سلوك الطائفين؛ فالمشاعر تتجاذب في نفسه، بين قلب يأبى فراق مهواه، فإذا هو مضغوط يكاد ينفطر، لولا دموع متدفقة توشك على إخراج العيون من محاجرها... وبين عقل يفكر في حتمية المفارقة، لكنه يتسلى بإمكانية المعاودة..،

وأعظم سؤال يزعج البعض هو سؤال القبول، فالمرء عند إنهاء أعمال الحج الظاهرة يخشى على نفسه الرد بسبب من الأعمال الباطنة التي لا يطلع عليها إلا الله سبحانه وتعالى... ومع الأسف كثير من الناس لا يأبه بهذا الأمر، وهو جوهري في الطاعات والعبادات؛ فكلما كان هاجس المتعبد تحقيق قبول الأعمال الصالحة، كان ذلك مدعاة لنشاط الجوارح في مضاعفة الطاعات، وكان قادرا بإذن الله سبحانه على ترك المعاصي وتجنب أسبابها، جعلنا الله من المقبولين، وثبتنا والمسلمين على الطريق القويم، بمنه، وكرمه، وفضله...

في الطواف حول البيت العتيق، يدعو كل طائف بما يسر الله له، وفتح عليه، بحسب مستواه المعرفي، واطلاعه؛ فمنهم من يثبت على دعاء واحد، ومنهم من يكرر أدعية مختلفة، ومنهم من يردد مع داع بصوت مرتفع، ومنهم من يقرأ القرآن من حفظه أو من المصحف، ومنهم من لا تسمع له صوتا، وكأنما ذرات جسده، ومسامه، تتوب عنه فتدعو، ومن أطرف ما سمعت امرأة تردد خلف رجل سؤال الله الحور العين!! ومن أغرب المشاهد منظر حجاج وهم غاية التأثر -يبدو من ملامحهم أنهم من جنوب شرق آسيا- خرجوا من المسجد الحرام القهقرى حتى لا يعطوا للكعبة المشرفة بظهورهم!!

بشهادة الحجاج والسلطات الرسمية كان موسم حج 1438 للهجرة ناجحا بامتياز، لا أوبئة ولا حوادث تذكر، والمشكلات التي اعترضت بعض الحجاج سواء في النقل أو التسكين، أو التغذية،  ترجع بالأساس إلى كثرة المتدخلين في تنظيم الحج، وغالبا ما تتبعها وزارة الحج التي ينسب لها الحزم والجد في الوقوف أمام المتلاعبين، "والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث".

وليس بخاف حجم توقع الحجاج الكبير لشروط الراحة، الناتج عن شيء من ثقافة السوق في الترويج لعروض الحج من قبل بعض الوكالات أثناء التسجيل، ودليله أن حجاج البعثة ذكر عنهم أنهم  اشتكوا من التفريط ولم نسمع بتدخل من السلطات المغربية ولا السعودية؟ بينما بعثة وزارة السياحة المغربية تتابع الوكالات وتسأل الحجاج عن ظروف الإقامة والإعاشة...

حسب عدد يوم الخميس 16ذي الحجة 1438 من جريدة "المدينة"؛ فإن إجمالي عدد الحجاج لهذا العام هو 2352122 حاجا وحاجة، منهم 1752014 من الخارج، و600108 حاجا من الداخل؛ ولم أفهم -إذا كان عدد حجاج الداخل صحيحا- هل السعودية غير ملزمة بنظام النسبة الذي تخضع له الدول الإسلامية بمعدل ألف حجاج في المليون من جملة سكانها؟؟

كان في خدمتهم 150 ألف عنصر من رجال الأمن والجيش، و30 ألف طبيب وممارس صحي، و21 ألف حافلة لتصعيد الحجاج إلى عرفات، و23 ألف عامل لتأمين نظافة مكة والمشاعر المقدسة...

وتتحدث الصحف السعودية بعناوين متقاربة عن نجاح موسم الحج، لكن الغريب هو الافتخار بالنجاح باستحضار المخاوف، واستعمال عبارات توحي بأن الحج مستهدف؛ فمثلا نقلت جريدة المدينة على لسان الشيخ السديس قوله: نجاح موسم الحج رسالة قوية في وجه المغرضين الحاقدين. وجريدة أخرى عنونت: الحق ما شهدت به الأعداء، إيران تشهد بنجاح موسم الحج...

هناك شيء ما يحدث في السعودية؛ خطاب النخبة السياسية والدينية، وتوافق الصحف على نفس الموضوعات، والإجراءات الجديدة في حق المقيمين... نسأل الله تعالى الأمن والسلام لأرض الحرمين حتى تبقى في خدمة ضيوف الرحمان وما أشرفها من خدمة...