Monday 8 December 2025
كتاب الرأي

خالد أخازي: من أجل دور للشباب تنتمي لزمنها

خالد أخازي: من أجل دور للشباب تنتمي لزمنها خالد أخازي
من منا لا تعلق بذاكرته أجواء  دور الشباب المغربية طفلا ثم مراهقا فشابا... حين كانت فضاءات للأمل والابتكار، للترفيه والانفتاح والتكوين...؟
ها هي اليوم  مجرد شواهد على فجوة عميقة بين برامج الوزارة الوصية وبين نبض الجيل الذي يفترض أن تخدمه. ليست القضية في غياب المبادرات أو انعدام الموازنات، بل في منهجية عمل تقليدية تتسم بالقطعية والارتجالية والموسمية، وتتعامل مع إشكال معقد بنظرة اختزالية تفتقر إلى الرؤية الاستراتيجية والتشاركية الحقيقية.
فإذا أمعنا النظر في طبيعة العديد من البرامج الوزارية الموجهة للشباب، نجدها غالبا ما تختزل في سلسلة من الأنشطة المنعزلة: مهرجان موسمي، ورشة تكوينية سريعة، ندوة نظريّة، أو مسابقة تختتم بتوزيع الجوائز وتصوير التقارير الإعلامية.... أو تكوين بلا امتداد ولا تقويم ميداني يتكلف به أطر بعضها غير مؤهل للتأطير.
هذا النموذج القائم على "ثقافة الحدث" ينتج حركة ظاهرية مفعمة بالضوضاء، لكنه يفشل في خلق استمرارية أو بناء أثر تراكمي. إنه يشبه من يبني قصرا من الرمال، كل موجة تعيد تشكيله من دون أن يترك أساسا متينا. المشكلة الأساس تكمن في أن هذه المبادرات تخطط في مكاتب مغلقة، بعيدا عن البيئة الحقيقية للشباب واحتياجاتهم المتطورة، ثم تنزل ميدانيا كحلول جاهزة. هذا المنطق التصاعدي الذي يفرض الرؤية من الأعلى إلى الأسفل، يتجاهل مقاربة القرب ويعمق الشعور بالاغتراب. الشاب لا يستشار في احتياجاته، ولا يشرك في تصميم الحلول، فيصبح مجرد رقم في إحصائية أو وجها في صورة، لا شريكا في عملية التنمية.
الأمر لا يتوقف عند منهجية التخطيط، بل يمتد إلى آليات التنفيذ التي تكرس الطابع البيروقراطي والمركزي. فالكثير من البرامج تحاصر بشروط إدارية معقدة وأطر زمنية جامدة، مما يجردها من مرونتها وقدرتها على التكيف مع خصوصيات كل منطقة. فما يصلح لشباب المدن قد لا يتناسب مع احتياجات الوسط القروي، والتقييد بمساطر موحدة يفقد المبادرات روحها وملامستها للواقع. كما أن التركيز المفرط على الجانب "التقني" و"الإداري" للأنشطة ، غالبا ما يطغى على الجوهر "التربوي" و"المجتمعي" الذي يفترض أن يكون القلب النابض لهذه الدور. النتيجة : فضاءات تدار بذهنية بائدة لجيل لا يعرفه المخطط.
 التقييم يكشف عن أحد أكبر مكامن الخلل، حيث تختزل نجاعة الملايين من الدراهم وساعات العمل الطويلة في تقارير رقمية جافة: عدد المستفيدين، عدد الورشات، عدد المعدات المشتراة. هذه المؤشرات الكمية، رغم أهميتها الإحصائية، تخفي وراءها فراغا نوعيا قاتلا. فهي لا تجيب على الأسئلة الجوهرية: أي وعي ترسخ؟ أي مهارات حقيقية اكتسبها الشباب؟ هل تحولت الأفكار إلى مشاريع؟ هل ساهمت الأنشطة في بناء حس المواطنة والانتماء المحلي؟ غياب آليات التقييم النوعي والتتبع الطويل الأمد يؤدي إلى دوامة من التكرار، حيث تعاد الأخطاء نفسها وتكرر  النماذج ذاتها غير المجدية، تحت شعارات جديدة وبرامج تكوين فضفاضة، من دون مساءلة حقيقية للفعالية والجودة والأثر.
 النظرة القاصرة التي تعتبر "الشباب" كتلة واحدة متجانسة هي التهديد الحقيقي للنجاعة، حيث تقدم لهم برامج عامة لا تميز بين طموحات الخريج العاطل، واحتياجات التلميذ الموهوب، وتحديات الشابة المقاولة، وأحلام الفنان الصاعد وبين دوي الحاجيات الخاصة والمرأة... والشباب الحضري والشباب القروي. هذا التعميم يهدر الطاقات الهائلة الكامنة في تنوع الشباب المغربي واختلاف تطلعاتهم. بل والأكثر إشكالا هو تحويل بعض المبادرات إلى وسيلة لتكريس النخبوية، حيث توجه بشكل متكرر نحو  المجموعة ذاتها من "الشباب النشيطين" المحظوظين، مما يحول دون توسيع قاعدة المشاركة ويخلق شعورا بالإقصاء والغبن لدى الغالبية الصامتة.
إن هذا المنهج التقليدي، باختصار، ينتج مؤسسات مغلقة على ذاتها، منفصلة عن دينامية المجتمع. فهو يبني جدرانا عازلة حتى وإن كانت أحيانا مادية جديدة بين دور الشباب ومحيطها من جامعات، وقطاع خاص، وجمعيات محلية، ومراكز إبداعية. وهكذا تفقد هذه الدور دورها التاريخي كجسور للتواصل والاندماج الاجتماعي، لتصبح جزيرة معزولة، تقدم خدمات من داخل أسوارها، لكنها لا تشارك في صنع  نخب تنمية محلية بوعي وطني. 
 النقد هنا ليس سوداويا، ولا يعني أن كل الجهود ذهبت سدة. فهناك بلا شك مبادرات فردية ومحلية ناجحة تنم عن إرادة حقيقية للتغيير. ولكن الإشكالية هيكلية ومنهجية. الخلاصة التي تفرض نفسها هي أن المراهنة على زيادة عدد الأنشطة أو تجديد واجهات المباني وابتداع تكوينات لرؤية تقليدية لوظيفة دار الشباب لن يحل المعضلة. المطلوب هو نقلة نوعية في الفلسفة نفسها التي تحكم العلاقة بين الدولة والشباب. نقلة من "التنشيط" الموجه إلى "التمكين" الحقيقي، ومن منطق "الإدارة" البيروقراطية إلى فكر "التأطير" المجتمعي، ومن ثقافة "البرنامج" المناسباتي إلى استراتيجية "المسار" المستدام. آن الأوان لأن تصبح دور الشباب مختبرات مفتوحة للحلم المغربي الجديد، وليس متاحف لإدارة الرغبات الشبابية بأدوات عفا عليها الزمن. هذا التحول ليس رفاهية، بل ضرورة وجودية لمستقبل يستثمر في أهم ثروة يمتلكها الوطن: طاقة شبابه وابتكاراته.
 خالد أخازي، كاتب وإعلامي