تشكل الأبعاد الجيوسياسية الإقليمية وعلى مستوى صراع القوى العظمى من أبرز المتغيرات المحددة للنموذج المغربي في أبعاده الشكلية والقانونية والمؤسساتية، ويقتضي النجاح على المدى البعيد تقييم الفرص والمخاطر الجيوسياسية المرتبطة بنموذجين للحكم الذاتي يمكن وضعهما في المحفظة الدبلوماسية ووضعهما على طاولة المفاوضات حسب المنحى العميق الذي تسير إليه التطورات الجيوسياسية ووفقا لرؤية استشرافية تمتد على مدى 20 إلى 30 سنة القادمة.
سنطلق على الصيغة الأولى الأول اسم "النموذج الجهوي أ" (النموذج أ) والثاني"النموذج الجهوي الموسع ب" (النموذج ب).
1. موقع القوة دبلوماسيا بالنسبة للمغرب لا يعني إضعاف دول الجوار: القرار الأخير 2797 لمجلس الأمن الدولي يستخدم مصطلحات أكثر قوة من القرارات السابقة بالرغم من كونه يبقى قرارا غير ملزما باعتبار أن النزاع مُدرج ضمن الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة. من المؤكد أن هذا القرار يقربنا بخطوة كبرى نحو الحل السياسي والنهائي، لكن شريطة استجابة الأطراف الأخرى المذكورة في فحوى القرار. يوجد المغرب اليوم أكثر من أي وقت مضى في موقع قوة على المستوى الدبلوماسي أولا بالنظر إلى الدعم الدولي الواسع جدا لمقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، والمصداقية التي دفعت عدة دول كبرى إلى تحيين أجندتها الخارجية تجاه المنطقة المغاربية على أساس اعتبار المغرب البلد الأكثر استقرار وموثوقية. تتقاطع الجوانب الاقتصادية والأمنية مع جيوسياسة إقليمية معقدة تضع المغرب في خريطة تحالفات أوسع وأكثر توازنا على المستوى الدولي، مقارنة بدول الجوار التي دخلت في مرحلة كسب الوقت بدون بوصلة تحدد المآلات اللاحقة وبالأخص الجزائر التي تخشى من تبخر سردية العدو الخارجي وانكشاف ضياع ما أنفقته من ثروات على الأطروحة الانفصالية. ولكن أيضا تونس التي فقدت استقلالية سياستها الخارجية في السنوات الأخيرة، وأيضا موريتانيا التي لم تهجر التردد والحذر في قرارتها بشأن مجاراة تطورات الوضع الإقليمي، إلى الحد الذي تحولت الضبابية الاستراتيجية إلى شلل غير استراتيجي في سياق تبدو فيه مكاسب موريتانيا معلقة إلى حين مجابهة واقعية لعلاقتها الملتبسة بتمثلات مبالغ فيها مع الجزائر. المغرب "الجزيرة" حسب العبارة الشهيرة للمفكر المغربي "عبد الله العروي" تنطبق حرفيا على الوضع الجيوسياسي الراهن كاستعارة واقعية أكثر منها مجازية، لكن سيتوقف كل شيء على انطلاق ونجاح المفاوضات بوساطة أمريكية وبعيدا عن أي تدخلات أجنبية.
عدم الاستجابة لدعوة مجلس الأمن الدولي قد يزيد من العزلة الدبلوماسية للجزائر بالأخص في ظل امتناع روسيا والصين عن التصويت بدل استخدام حق النقض VETO، وهو ما لم يكن تصور حدوثه في السابق عندما كانت العلاقات المغربية والروسية والعلاقات المغربية الصينية لم ترتقيا بعد إلى درجة التحالف الاستراتيجي منذ الزيارتين التاريخيتين للملك محمد السادس إلى الدولتين سنة 2016. وعلى هذا الأساس، فالامتناع عن التصويت على قرار بهذه الأهمية والذي يوثق بمداد مجلس الأمن تحول ميزان القوة الذي حسمه المغرب بحزم على أرض الواقع السياسي والميداني في المنطقة لصالح السيادة المغربية بشكل نهائي لا رجعة فيه.
سواء انطلقت المفاوضات أم لم تنطلق، سيتعزز موقع المغرب دبلوماسيا وسياسيا، وحينذاك سيكون من الأفضل وضع النموذج "أ" على الطاولة (جهوية متقدمة تُضاف إليها تفاصيل دقيقة تعزز من اختصاصات الجهة في التدبير الحر لشؤونها و ترفع من الموارد الضريبية مع تعريف الحكم الذاتي كمشروع وطني عبر إنشاء صندوق موازنة peréquation)، ثم ترك الأطراف الأخرى تضع اقتراحاتها في إطار الرد على الصيغة التي قدمها المغرب.
2. من النزاع المجمد إلى دينامية البراغماتية: تعرف المرحلة الحالية انتقال النزاع من بعده الأممي المُجمد إلى بعد جديد موسوم بالبراغماتية، وبالتنافس بين القوى الكبرى حول الاستفادة من الحل السياسي الواقعي المنتظر. صياغة مضمون القرار وعدم الاعتراض عليه بحق الفيتو من طرف روسيا والصين يؤشر على بعض التشنج المقبول استراتيجيا في السياسة الدولية طالما أن القضية خرجت من الثلاجة نحو اعتماد مجلس الأمن للمبادرة المغربية كأساس وحيد للحل.
في هذا السياق، تستبق السياسة الخارجية المغربية هذا التحول عبر وضع وتأكيد عقيدة الاصطفاف المتعدد multi alignement مع الحفاظ على حد أدنى ضروري من الوضوح الاستراتيجي الذي يعزز من صورة ووزن المغرب كشريك ذو مصداقية، وهو ما لاحظناه خلال الحرب الروسية ضد الحلف الأطلسي على الأراضي الأوكرانية، وهذا بالرغم من العلاقات القوية التي تجمع المغرب مع الحلف الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية ومكانة المغرب كشريك استراتيجي غير عضو لحلف الناتو. ونفس الاستنتاج يتأكد من خلال دعم المغرب الدائم والقوي لمبدأ "الصين الواحدة" وانفتاحها على علاقات تجارية واستثمارات صينية مهمة في إطار برنامج طريق الحرير.
يمنح تنويع وتقوية الشراكات مع القوى الكبرى أوراقا رابحة تعزز من موقع المغرب التفاوضي بناء على الثقة والمصداقية التي اكتسبها المغرب في علاقاته الخارجية. في المقابل، قد يرافق ذلك تعرض المغرب لبعض الضغوطات وبالأخص من الحلفاء التقليديين وفي مقدمتهم الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية في تجاه صياغة وتنزيل نموذج جهوي موسع خاصة على مستوى التعاون الاقتصادي اللامركزي. إن تنزيل الحكم الذاتي مع أقل قدر من التنازلات وفقا لصيغة النموذج "أ" الجهوي المتقدم يعزز من قدرة المغرب على مقاومة الضغوط والاستمرار في النهج المتعدد الاصطفاف دون فقدان النواة الصلبة لما يشكل الوضوح الاستراتيجي ويتعلق الأمر بالتشبت بالوحدة الترابية والوطنية الذي فرض المغرب مكانتها في قمة الأولويات الوطنية التي لا يمكن لأي سياسة خارجية في العالم أن تتجاهلها أوأن تستغلها كورقة ابتزاز ضد المغرب.
3. الرهانات المرتبطة بالأمن والاستقرار الإقليميين: وترتبط أولا بتشديد القرار 2797 على أهمية وقف إطلاق النار وتجنب أي عمل يقوض العملية السياسية، كما تنبع من مخاطبة جميع الأطراف المعنية وهي المغرب وجبهة البوليساريو والجزائر وموريتانيا. إقليمية النزاع تقتضي أن تشارك في مسلسل المفاوضات هذه الأطراف الأربعة مما يضمن استدامة الحل في إطار تسوية إقليمية تقبلها وتحرص على احترامها.
المؤكد أن تنزيل الحكم الذاتي بشكل متزن وتدريجي ومنسجم مع خصوصيات المغرب السياسية والتاريخية والثقافية سيمثل عاملا رئيسيا في طريق تحقيق الاستقرار الإقليمي على عدة مستويات، أولا عبر نهاية الأطروحة الانفصالية التي يمكن بدرجة احتمالية عالية أن تكون الجزائر نفسها ضحية لها في المستقبل إن لم تنخرط في المفاوضات على أساس الحكم الذاتي. وثانيا، عبر خلق فضاء للتنمية الاقتصادية والاجتماعية يتجاوز النطاق الجغرافي للأقاليم الصحراوية ليشمل منظقة الساحل والصحراء ككل، وإفريقيا جنوب الصحراء في سياق صلح مغاربي وانخراط دول الجوار (موريتانيا والجزائر( في المبادرة الأطلسية وفي مبادرة الدول الإفريقية المطلة على الفضاء الرحب للمحيط الأطلسي. إن مناخ الاستقرار والتعاون الإقليمي وما قد يرافقه من ارتفاع في حجم الاستثمارات في سائر دول المنطقة سيقوي من ريادة المغرب ومن سيناريو الاحتذاء بتجربة الحكم الذاتي من أجل نموذج جهوي قد يمثل بالنسبة للجزائر حلا حقيقيا لمواجهة تحديات الحفاظ على وحدتها الترابية خاصة أن تكتونية التقسيم والتجزئة الترابية كامنة بقوة في عدة مناطق مثل القبايل والطوارق والشاوية. من المؤكد أن التوافق الإقليمي حول التسوية النهائية وإرساء دعائم الأمن والاستقرار وتعميم ثمار التنمية يتناسب مع المقاربة التدرجية من النموذج "أ" الجهوي إلى النموذج "ب" الجهوي الموسع.
4. على المستوى الجيواقتصادي وتدبير الثروات في مرحلة ما بعد النزاع: يشكل البعد الاقتصادي والتنموي بعدا أفقيا في مشروع الحكم الذاتي لارتباطه أولا بالموارد وبالاستثمارات، ومعادلة الاستفادة منها جهويا ووطنيا. كما يعد أحد المعايير الرئيسية التي على ضوئها يمكن تقييم مراحل تنزيل الحكم الذاتي. من المهم جدا أن يخضع تدبير الموارد إلى الديمقراطية الجهوية والتشاركية مجسدة في مجلس أو برلمان الجهة وفي المجالس المنتخبة والاستشارية.
تشكل صياغة وتنزيل الحكم الذاتي الاقتصادي أمر بالغ الأهمية والهدف منه جعل برنامج التنمية الاقتصادية في الأقاليم الجنوبية واستغلال الثروات عاملا مهما في سبيل تعزيز الوحدة الوطنية وتحصينها ضد أي انزلاق نحو نزعات تهدد الوحدة. وإذا ما تمعنا في مضمون عدة نماذج دستورية مُقارنة للحكم الذاتي، نجد أنه لا توجد قاعدة أو معادلة معينة تحقق هذا الهدف في المطلق، لكن يجب الانطلاق من الخصوصية المغربية جغرافيا وديموغرافيا، أي بناء على معايير عدد السكان مع وضع نموذج يتم فيه تخصيص نسبة تتراوح بين 20 إلى 25 في المائة لتنمية الجهة مع إمكانية رفعها تدريجيا إلى سقف 30 في المائة. وفي نفس الوقت، اعتماد مقاربة تدرجية في تعزيز الموارد الضريبية. سيكون من المجدي إنشاء صندوق موازاناتي حقيقي وفعال يضمن تحقيق توزيع متكافئ ومنصف ضمن المشروع الوطني للتنمية، لأنه مازالت بعض الجهات في المغرب مثل جهة درعة تافيلالت أو جهة الشرق تعاني من الاختلال في العدالة المجالية. و في هذا الصدد، يجب التأكيد على ضرورة وأهمية إطلاق برامج جهوية للتنمية في جميع جهات المغرب موازاة مع صياغة وتنزيل الحكم الذاتي في الأقاليم الجنوبية. بعض التجارب مثل جنوب التيرول في إيطاليا و أقاليم أخرى أوروبية تؤكد فرضية الأثر الإيجابي لنجاح الحكم الذاتي الاقتصادي ديمقراطيا وتنمويا على صعيد تعزيز الجاذبية الاقتصادية ليس فقط جهويا ولكن أيضا وطنيا، كما أن الخيار الديمقراطي وتعزيز الحقوق الثقافية والاقتصادية يقوي الانتماء الوطني شريطة أن يكون التنزيل مرفقا بسياسات توزيعية تراعي التضامن الواجب. ويبقى النجاح في نهاية الأمر رهينا بمحاربة اقتصاد الريع غير المُنتج وتضارب المصالح وطنيا وجهويا ضمن استراتيجية وطنية شاملة اقتصاديا ومؤسساتيا وقانونيا، عبر تنويع الاقتصاد وخلق صندوق سيادي للاسثمار Fonds souverain يتم تسخيره لخدمة البرامج الاستراتيجية على المدى البعيد، بدل الارتهان إلى الديون الخارجية، وأخيرا تنزيل نموذج اقتصادي لكل جهات المغرب في أفق الخروج من باراديغم "الجزيرة" إلى باراديغم "المحور HUB".
1. موقع القوة دبلوماسيا بالنسبة للمغرب لا يعني إضعاف دول الجوار: القرار الأخير 2797 لمجلس الأمن الدولي يستخدم مصطلحات أكثر قوة من القرارات السابقة بالرغم من كونه يبقى قرارا غير ملزما باعتبار أن النزاع مُدرج ضمن الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة. من المؤكد أن هذا القرار يقربنا بخطوة كبرى نحو الحل السياسي والنهائي، لكن شريطة استجابة الأطراف الأخرى المذكورة في فحوى القرار. يوجد المغرب اليوم أكثر من أي وقت مضى في موقع قوة على المستوى الدبلوماسي أولا بالنظر إلى الدعم الدولي الواسع جدا لمقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، والمصداقية التي دفعت عدة دول كبرى إلى تحيين أجندتها الخارجية تجاه المنطقة المغاربية على أساس اعتبار المغرب البلد الأكثر استقرار وموثوقية. تتقاطع الجوانب الاقتصادية والأمنية مع جيوسياسة إقليمية معقدة تضع المغرب في خريطة تحالفات أوسع وأكثر توازنا على المستوى الدولي، مقارنة بدول الجوار التي دخلت في مرحلة كسب الوقت بدون بوصلة تحدد المآلات اللاحقة وبالأخص الجزائر التي تخشى من تبخر سردية العدو الخارجي وانكشاف ضياع ما أنفقته من ثروات على الأطروحة الانفصالية. ولكن أيضا تونس التي فقدت استقلالية سياستها الخارجية في السنوات الأخيرة، وأيضا موريتانيا التي لم تهجر التردد والحذر في قرارتها بشأن مجاراة تطورات الوضع الإقليمي، إلى الحد الذي تحولت الضبابية الاستراتيجية إلى شلل غير استراتيجي في سياق تبدو فيه مكاسب موريتانيا معلقة إلى حين مجابهة واقعية لعلاقتها الملتبسة بتمثلات مبالغ فيها مع الجزائر. المغرب "الجزيرة" حسب العبارة الشهيرة للمفكر المغربي "عبد الله العروي" تنطبق حرفيا على الوضع الجيوسياسي الراهن كاستعارة واقعية أكثر منها مجازية، لكن سيتوقف كل شيء على انطلاق ونجاح المفاوضات بوساطة أمريكية وبعيدا عن أي تدخلات أجنبية.
عدم الاستجابة لدعوة مجلس الأمن الدولي قد يزيد من العزلة الدبلوماسية للجزائر بالأخص في ظل امتناع روسيا والصين عن التصويت بدل استخدام حق النقض VETO، وهو ما لم يكن تصور حدوثه في السابق عندما كانت العلاقات المغربية والروسية والعلاقات المغربية الصينية لم ترتقيا بعد إلى درجة التحالف الاستراتيجي منذ الزيارتين التاريخيتين للملك محمد السادس إلى الدولتين سنة 2016. وعلى هذا الأساس، فالامتناع عن التصويت على قرار بهذه الأهمية والذي يوثق بمداد مجلس الأمن تحول ميزان القوة الذي حسمه المغرب بحزم على أرض الواقع السياسي والميداني في المنطقة لصالح السيادة المغربية بشكل نهائي لا رجعة فيه.
سواء انطلقت المفاوضات أم لم تنطلق، سيتعزز موقع المغرب دبلوماسيا وسياسيا، وحينذاك سيكون من الأفضل وضع النموذج "أ" على الطاولة (جهوية متقدمة تُضاف إليها تفاصيل دقيقة تعزز من اختصاصات الجهة في التدبير الحر لشؤونها و ترفع من الموارد الضريبية مع تعريف الحكم الذاتي كمشروع وطني عبر إنشاء صندوق موازنة peréquation)، ثم ترك الأطراف الأخرى تضع اقتراحاتها في إطار الرد على الصيغة التي قدمها المغرب.
2. من النزاع المجمد إلى دينامية البراغماتية: تعرف المرحلة الحالية انتقال النزاع من بعده الأممي المُجمد إلى بعد جديد موسوم بالبراغماتية، وبالتنافس بين القوى الكبرى حول الاستفادة من الحل السياسي الواقعي المنتظر. صياغة مضمون القرار وعدم الاعتراض عليه بحق الفيتو من طرف روسيا والصين يؤشر على بعض التشنج المقبول استراتيجيا في السياسة الدولية طالما أن القضية خرجت من الثلاجة نحو اعتماد مجلس الأمن للمبادرة المغربية كأساس وحيد للحل.
في هذا السياق، تستبق السياسة الخارجية المغربية هذا التحول عبر وضع وتأكيد عقيدة الاصطفاف المتعدد multi alignement مع الحفاظ على حد أدنى ضروري من الوضوح الاستراتيجي الذي يعزز من صورة ووزن المغرب كشريك ذو مصداقية، وهو ما لاحظناه خلال الحرب الروسية ضد الحلف الأطلسي على الأراضي الأوكرانية، وهذا بالرغم من العلاقات القوية التي تجمع المغرب مع الحلف الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية ومكانة المغرب كشريك استراتيجي غير عضو لحلف الناتو. ونفس الاستنتاج يتأكد من خلال دعم المغرب الدائم والقوي لمبدأ "الصين الواحدة" وانفتاحها على علاقات تجارية واستثمارات صينية مهمة في إطار برنامج طريق الحرير.
يمنح تنويع وتقوية الشراكات مع القوى الكبرى أوراقا رابحة تعزز من موقع المغرب التفاوضي بناء على الثقة والمصداقية التي اكتسبها المغرب في علاقاته الخارجية. في المقابل، قد يرافق ذلك تعرض المغرب لبعض الضغوطات وبالأخص من الحلفاء التقليديين وفي مقدمتهم الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية في تجاه صياغة وتنزيل نموذج جهوي موسع خاصة على مستوى التعاون الاقتصادي اللامركزي. إن تنزيل الحكم الذاتي مع أقل قدر من التنازلات وفقا لصيغة النموذج "أ" الجهوي المتقدم يعزز من قدرة المغرب على مقاومة الضغوط والاستمرار في النهج المتعدد الاصطفاف دون فقدان النواة الصلبة لما يشكل الوضوح الاستراتيجي ويتعلق الأمر بالتشبت بالوحدة الترابية والوطنية الذي فرض المغرب مكانتها في قمة الأولويات الوطنية التي لا يمكن لأي سياسة خارجية في العالم أن تتجاهلها أوأن تستغلها كورقة ابتزاز ضد المغرب.
3. الرهانات المرتبطة بالأمن والاستقرار الإقليميين: وترتبط أولا بتشديد القرار 2797 على أهمية وقف إطلاق النار وتجنب أي عمل يقوض العملية السياسية، كما تنبع من مخاطبة جميع الأطراف المعنية وهي المغرب وجبهة البوليساريو والجزائر وموريتانيا. إقليمية النزاع تقتضي أن تشارك في مسلسل المفاوضات هذه الأطراف الأربعة مما يضمن استدامة الحل في إطار تسوية إقليمية تقبلها وتحرص على احترامها.
المؤكد أن تنزيل الحكم الذاتي بشكل متزن وتدريجي ومنسجم مع خصوصيات المغرب السياسية والتاريخية والثقافية سيمثل عاملا رئيسيا في طريق تحقيق الاستقرار الإقليمي على عدة مستويات، أولا عبر نهاية الأطروحة الانفصالية التي يمكن بدرجة احتمالية عالية أن تكون الجزائر نفسها ضحية لها في المستقبل إن لم تنخرط في المفاوضات على أساس الحكم الذاتي. وثانيا، عبر خلق فضاء للتنمية الاقتصادية والاجتماعية يتجاوز النطاق الجغرافي للأقاليم الصحراوية ليشمل منظقة الساحل والصحراء ككل، وإفريقيا جنوب الصحراء في سياق صلح مغاربي وانخراط دول الجوار (موريتانيا والجزائر( في المبادرة الأطلسية وفي مبادرة الدول الإفريقية المطلة على الفضاء الرحب للمحيط الأطلسي. إن مناخ الاستقرار والتعاون الإقليمي وما قد يرافقه من ارتفاع في حجم الاستثمارات في سائر دول المنطقة سيقوي من ريادة المغرب ومن سيناريو الاحتذاء بتجربة الحكم الذاتي من أجل نموذج جهوي قد يمثل بالنسبة للجزائر حلا حقيقيا لمواجهة تحديات الحفاظ على وحدتها الترابية خاصة أن تكتونية التقسيم والتجزئة الترابية كامنة بقوة في عدة مناطق مثل القبايل والطوارق والشاوية. من المؤكد أن التوافق الإقليمي حول التسوية النهائية وإرساء دعائم الأمن والاستقرار وتعميم ثمار التنمية يتناسب مع المقاربة التدرجية من النموذج "أ" الجهوي إلى النموذج "ب" الجهوي الموسع.
4. على المستوى الجيواقتصادي وتدبير الثروات في مرحلة ما بعد النزاع: يشكل البعد الاقتصادي والتنموي بعدا أفقيا في مشروع الحكم الذاتي لارتباطه أولا بالموارد وبالاستثمارات، ومعادلة الاستفادة منها جهويا ووطنيا. كما يعد أحد المعايير الرئيسية التي على ضوئها يمكن تقييم مراحل تنزيل الحكم الذاتي. من المهم جدا أن يخضع تدبير الموارد إلى الديمقراطية الجهوية والتشاركية مجسدة في مجلس أو برلمان الجهة وفي المجالس المنتخبة والاستشارية.
تشكل صياغة وتنزيل الحكم الذاتي الاقتصادي أمر بالغ الأهمية والهدف منه جعل برنامج التنمية الاقتصادية في الأقاليم الجنوبية واستغلال الثروات عاملا مهما في سبيل تعزيز الوحدة الوطنية وتحصينها ضد أي انزلاق نحو نزعات تهدد الوحدة. وإذا ما تمعنا في مضمون عدة نماذج دستورية مُقارنة للحكم الذاتي، نجد أنه لا توجد قاعدة أو معادلة معينة تحقق هذا الهدف في المطلق، لكن يجب الانطلاق من الخصوصية المغربية جغرافيا وديموغرافيا، أي بناء على معايير عدد السكان مع وضع نموذج يتم فيه تخصيص نسبة تتراوح بين 20 إلى 25 في المائة لتنمية الجهة مع إمكانية رفعها تدريجيا إلى سقف 30 في المائة. وفي نفس الوقت، اعتماد مقاربة تدرجية في تعزيز الموارد الضريبية. سيكون من المجدي إنشاء صندوق موازاناتي حقيقي وفعال يضمن تحقيق توزيع متكافئ ومنصف ضمن المشروع الوطني للتنمية، لأنه مازالت بعض الجهات في المغرب مثل جهة درعة تافيلالت أو جهة الشرق تعاني من الاختلال في العدالة المجالية. و في هذا الصدد، يجب التأكيد على ضرورة وأهمية إطلاق برامج جهوية للتنمية في جميع جهات المغرب موازاة مع صياغة وتنزيل الحكم الذاتي في الأقاليم الجنوبية. بعض التجارب مثل جنوب التيرول في إيطاليا و أقاليم أخرى أوروبية تؤكد فرضية الأثر الإيجابي لنجاح الحكم الذاتي الاقتصادي ديمقراطيا وتنمويا على صعيد تعزيز الجاذبية الاقتصادية ليس فقط جهويا ولكن أيضا وطنيا، كما أن الخيار الديمقراطي وتعزيز الحقوق الثقافية والاقتصادية يقوي الانتماء الوطني شريطة أن يكون التنزيل مرفقا بسياسات توزيعية تراعي التضامن الواجب. ويبقى النجاح في نهاية الأمر رهينا بمحاربة اقتصاد الريع غير المُنتج وتضارب المصالح وطنيا وجهويا ضمن استراتيجية وطنية شاملة اقتصاديا ومؤسساتيا وقانونيا، عبر تنويع الاقتصاد وخلق صندوق سيادي للاسثمار Fonds souverain يتم تسخيره لخدمة البرامج الاستراتيجية على المدى البعيد، بدل الارتهان إلى الديون الخارجية، وأخيرا تنزيل نموذج اقتصادي لكل جهات المغرب في أفق الخروج من باراديغم "الجزيرة" إلى باراديغم "المحور HUB".
رضا الفلاح. أستاذ التعليم العالي. جامعة ابن زهر بأكادير