الأربعاء 1 مايو 2024
مجتمع

إعجاز مغربي.. أموات لا زالوا قبلة للصلوات و"براتيش" لـآل الكونطوارات

إعجاز مغربي.. أموات لا زالوا قبلة للصلوات و"براتيش" لـآل الكونطوارات

منذ صغري كانت تستهويني هندسة القباب، بشكلها الدائري العجيب والمقوس خارجيا، وتقعر تجويف السقف الداخلي في صحن الأبنية، وحين الغوص في تاريخها، تجد أن الحضارات القديمة بالعراق وسوريا كانت سباقة لهذا النوع البديع من الأبنية، كمخازن ومقابر ومعابد.

ارتبطت القباب في ذاكرتي، بالصعلكة بجوار مزارات "الأولياء الصالحين"، وقد اتخذت أبنيتها نفس شكل القباب، مزارات تشغل حيزا مهما من الاعتقاد الشعبي، والذي يأخذ في الغالب مسوحا اجتماعية صرفة، رغم المظهر الديني الذي يحاول منتفعو هاته الأضرحة صبغه به، وتحضرنا هنا فتاوي ابن تيمية حول خوارق ساكنة قبور "الأولياء"، حين يقول: "ومن أصول أهل السنة التصديق بكرامات الأولياء، وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات، في أنواع العلوم والمكاشفات، وأنواع القدرة والتأثيرات". رغم أن فرقا متكلمة كالمعتزلة نفت وفندت بمنطق العقل هرطقات ما نسب "للأولياء" من خوارق ومعجزات وبركات.

كنا ونحن صغار، نتلصص على زوار قبة "الولي سيد الحضري"، نراقب حركاتهم وسكناتهم، ليس حبا في التلصص، بل استراقا للحظات خلو الممر لداخل القبة حتى نظفر بغنيمة الشمع والقطع النقدية، التي يتركها الزوار، طلاب البركات وخوارق ساكن القبر ذي الرداء الأخضر، نتسلل خلسة ننفذ جريمتنا الطفولية "البريئة" ونغادر، وما كان يثير حيرتي ورهبتي في نفس الآن، شجرة الزيتون الضخمة على مدخل الضريح، حيث المكان المفضل للنساء، تعقدن خيوطهن وأشياءهن الغريبة على أغصان الزيتونة، وكم من حكايات البوح أنصتنا لها من أفواه نساء مكلومات، بمرارة طلب بركات "الولي الميت"، أملا في زواج، أو فك عقم أو عودة فحولة زوج أو تشتيت عش عدو قصص بعدد شعر الرأس وبعدد عقد الخيوط المتدلية عن الزيتونة.

حالات اجتماعية، منكسرة، تلتمس الخلاص من بركات ساكن الضريح، طمعا في قشة خلاص تختلط فيها الشعوذة بالخرافة، بالأمل بالرهاب وموروث ثقافة البركات البائدة، لكن فضاء الضريح ليس مكانا للألم فقط، بل للمتعة والبهجة أيضا، حيث تتربع تحت ذات الزيتونة مستعمرة من بقايا قناني الجعة والنبيذ المكسورة، ما يثبت أجواء احتفالية الليل التي تعم محيط الضريح وهو يشرف على مقبرة القرية، المكان المفضل لاحتساء خمرة نهاية يوم متعب لمياوم مستعبد في حقول الجوار، وفي الغالب تستعمل نفس الكؤوس التي تحمل شموع زوار النهار في سهرة الليل، فضاء يشهد أيضا على المغامرات الأولى للقرويين مع النساء، فضاء للرجاء وطلب العلاج والأمل بالخوارق وطلب المتعة والحماية والانتشاء.

بكل اختصار محراب لكل الديانات الوثنية والتوحيدية واللادينية، كل القرية تعرف أدق تفاصيل وتعدد وتنوع رغبات الزوار ومشارب اعتقاداتهم البالغة حدود التناقض، لكن الأجمل في كل ذلك أن الكل يتعايش وينصهر في فضاء القبة، رغم اختلاف المآرب.