السبت 18 مايو 2024
سياسة

على خلفية تضامن الحكومة مع فتاتي إنزكان، "أنفاس بريس" تعيد أقوى لحظات المواجهة بين الوزيرين اكديرة والفاسي حول محاكمة البهائيين

 
 
على خلفية تضامن الحكومة مع فتاتي إنزكان، "أنفاس بريس" تعيد أقوى لحظات المواجهة بين الوزيرين اكديرة والفاسي حول محاكمة البهائيين

بنكيران يندد باعتقال فتاتي إنزكان، وبنعبد الله يعتبر الأمر خطيرا، ومزوار يرفض متابعتهما قضائيا، ولعنصر يبدي عدم تفهمه لهذه المتابعة، من باب التذكير فالأربعة هم أمناء الأغلبية الحزبية، ويديرون قطاعات حكومية مهمة، بـشق الأنفس"، أخرجوا من وقتهم الثمين لحظات للتنديد بما جرى في واقعة معروضة على القضاء، واستبقوا أي حكم قضائي بإدانة أو تبرئة الفتاتين، في مس خطير وصريح باستقلالية القضاء، فأي وضعية سيكون عليها القاضي وهو يبت في قضية استأثرت باهتمام قياديي الأحزاب سواء الحكومية أو المعارضة؟ طبعا النص الدستوري واضح في الفصل 109 الذي ينص على أنه "يمنع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاء.." مضيفا،".. يعاقب القانون كل من حاول التأثير على القاضي بكيفية غير مشروعة"، فهل هناك أكثر من تأثير على القضاء بمثل هذه التصريحات الحكومية؟

ولعل هذا التناقض في تحمل المسؤولية الحكومية وإطلاق العنان لتصريحات غير مسؤولة، ليس جديدا على الساحة السياسية بالمغرب، فبالعودة لإحدى أعداد مجلة "الزمان"، يسترجع فيها الزميل ساميلقمهري، جانبا من جوانب المواجهة بين عضوين في الحكومة، حول قضية "محاكمة البهائيين"، إذ في بداية الستينات، وبالضبط في أبريل 1963، مثل 13 مواطنا ينحدرون من الناظور، أمام المحكمة بتهم "المس بالدين الإسلامي"، ضمن ما عرف حينها بمحاكمة "البهائيين"، انقسمت الحكومة على نفسها إلى صفين، من جهة الراحل أحمد رضا اكديرة، وزير الداخلية، ومن جهة ثانية، الراحل علال الفاسي وزير الشؤون الإسلامية، ودخل الطرفان في عملية شد حبل قوية، ليتدخل الراحل الحسن الثاني نفسه في مسار القضية، معلنا في مؤتمر صحفي عشية المحاكمة، أنه «يمكن للديانتين اليهودية والمسيحية أن تمارسا بحرية.. وهذا لا يعني أن المغرب، في إطار نظامه العام، سيقبل غدا.. الطائفة البهائية أو غيرها من الطوائف التي ليست في الحقيقة سوى بدع».. اعتبر تصريح الملك الراحل، الحسن الثاني، باعتباره أعلى سلطة دينية وقانونية في البلاد إدانة مسبقة لمعتقلي الناظور، حتى قبل أن يقفوا أمام المحكمة. وبِغَضِّ النظر عن الحكم الشخصي للملك، ركزت هيأة المحكمة على «الطبيعة الخطيرة» للطائفة البهائية التي تصل إلى حد تهديد «سلامة المغرب والمس بدينه الرسمي».. ومع ذلك استمر التجاذب بين وزيري الداخلية والشؤون الإسلامية حول هذه القضية، خصوصا أمام البعد الإعلامي الدولي لهذه القضية، والزيارة التي كان سيقوم بها الملك الراحل للولايات المتحدة الأمريكية، حيث تم إرجاؤها لأسبوع، وتحولت محاكمة البهائيين المغاربة إلى حلبة لتصفية الحسابات السياسية. ودخل كل من وزير الداخلية أحمد رضا اكديرة، ووزير الشؤون الإسلامية علال الفاسي في صراع ثنائي حاد. وتضمنت إحدى افتتاحيات جريدة Les Pharesالتي أسسها وزير الداخلية تذكيرا بالمادة 10 من الدستور: «لا يلقي القبض على أحد ولا يحبس ولا يعاقب إلا في الأحوال وحسب الإجراءات المنصوص عليها في القانون». صاحب المقال، الذي قد لا يكون غير اكديرة نفسه، تساءل محتجا: «ما هو القانون المكتوب في المغرب الذي ينص وينزل عقوبة الإعدام على انتهاك القانون الديني؟». في المقابل، أخذ عضو بارز آخر في الحكومة موقفا واضحا ومناقضا تماما. الأمر يتعلق بعلال الفاسي الذي أبدى سخطه من موقف زميله في الحكومة اكديرة. ففي صحيفة الحزب الناطقة بالفرنسية «الاستقلال»، يقول وزير الشؤون الإسلامية: «هل سنعود إلى حقبة الصراع بين السلطتين القضائية والإدارية؟ فيما يتعلق بالدين البهائي، لقد أوضح الملك بما فيه الكفاية في مؤتمره الصحافي أن الحماية تعطى لأهل الكتاب، وليس للبدع والطوائف». باعتماده على ما قاله الملك الحسن الثاني، يكون علال الفاسي اختار أقصر الطرق في مواجهة خصومه. في المؤتمر الوطني الخامس لحزب الاستقلال في يناير 1963 أعلن قائلا: «أرى إعادة توجيه مفاجئة لروح الإسلام في الحملة التي يقودها السيد اكديرة وبعض المسؤولين. وهو ما لا يمكنني الموافقة عليه، لأنه يبرر رحيلي عن الحكومة».

بالمقابل وفي أعمدة جريدة حزبه الأسبوعية، «المكافح»، قدم الراحل عزيز بلال أستاذ الاقتصاد والسياسي الشيوعي، نقدا لاذعا للمحاكمة: «إن الحكم بعقوبة الإعدام والسجن مدى الحياة على أناس بسبب «بدعة دينية» يعود بنا إلى الأساليب الوحشية لمحاكم التفتيش في القرون الوسطى، أساليب أصدر عليها التاريخ حكمه دون رجعة، وتنكرت لها البشرية جمعاء عندما وصلت إلى القيم الأساسية للديمقراطية». ويمضي بلال في اتهام الواقفين وراء اندلاع القضية: «أولئك الذين قاموا بتركيب محاكمة الناظور أرادوا من ذلك، بالتأكيد، أن يخلقوا وسلية لتحويل الأنظار، وإلهاء الشعب المغربي عن النضال في سبيل تطلعاته من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، محاولين استعباده باسم التعصب الديني»..

لم يفوت الحزب الشيوعي المغربي، الذي تم حله سنة 1959 لأسباب دينية هو الآخر، الفرصة للتذكير بالتجاوزات التي ارتكبها النظام تحت غطاء الإسلام. الجالية اليهودية في المغرب عبرت بدورها عن قلقها من القضية، خاصة أنها كانت تمر، لحظتها، بواحدة من أصعب فتراتها في تاريخ المملكة، معيدة إلى الأذهان تجربة اليهود الطويلة والمأساوية مع الاضطهاد الديني عبر محاكم التفتيش.

 تحت تأثير الضغط الدولي، تم أخيرا إطلاق سراح المعتقلين الأربعة عشر يوم 18 ديسمبر 1963، بعد صدور الحكم الاستئنافي. أياما قليلة قبل ذلك، كان الملك الحسن الثاني أعلن موقفه خلال رحلة إلى الولايات المتحدة: «لا أتفق شخصيا مع حكم الإعدام الصادر في حق البهائيين بالمغرب. إذا أيدت محكمة الاستئناف الحكم الأول، سأطبق حقي في العفو». بهذه الطريقة انتهت القضية، كما لو أن شيء لم يكن.