في الواقع، فإن تعبير "شوكة في عيون العديان" لم يأت في العنوان أعلاه إلاّ على سبيل المُزْحة، لأن المقال فيه الكثير من الجدية والواقعية، كما هي عادة التقارير الاقتصادية المُعناة بالتجارة والاستثمار والمال والأعمال... فأردتُ أن أرطّب من ذلك الجفاف نسبياً!!
المناسبة، أن وكالة ألمانية متخصصة في أبحاث التجارة والاستثمار عالمياً، (GTAI)، وهي عبارة عن مَرفِقٍ للبحث والدراسة مُلحقٍ بوزارة الاقتصاد الألمانية، أصدرت تقريراً حامياً ومُثيراً يقدم المغرب كقوة اقتصادية ليست صاعدة فحسب، بل قادمة بقوة، وزاحفة زحف الفاتحين في الساحة العربية والإفريقية والمتوسطية، ولِمَ لا العالمية، بفضل خيارات سياسية/اقتصادية غير مسبوقة، اعتَبَرَها بعضُ الباحثين والمتتبعين للشأن الاقتصادي العالمي ثوريةً، وانقلابيةً، قلبت كثيرا من المعادلات الجاهزة، التي كانت مؤسسات الدراسات الإقليمية والقارية والدولية تُنجزها بأسلوب يمكن وصفه ب"الستاندار" ، وهو نفس الأسلوب الذي نقلت عنه جهات إعلامية مغربية درجت على وصف المغرب، بالكاد، بالبلد الصاعد!!
الحال أن الوكالة الألمانية سالفة الإشارة لم تستعمل هذا الوصف في تقديم الاقتصاد المغربي في صيغته الراهنة، بل قدّمته بما يوحي بأن الأمر يتعلق بنمر عربي إفريقي قادم بسرعة قياسية، كتلك التي سارت بها نمور الشرق الآسيوي لتصل إلى مواقعها الريادية الحالية... فكيف ذلك؟!
بدأت الوكالة بوصف الاقتصاد المغربي بحالة من الجعل والتحوّل شبيه بتحوّل الشرنقات الدودية إلى فراشات مُحَلِّقة وساعية، métamorphose، وبسرعة قياسية تبزّ كل التوقعات!!
فالمغرب في نظر الوكالة الألمانية لم يعد يَرضَى بدور البلد المستقبِل والمستضيف للاستثمارات الأجنبية، بل صار فاعلاً لا غنى عنه في الساحتين الاقتصاديتين الإفريقية والمتوسطية، له استثماراتُه ومساهماتُه ومقاييسُه البورصوية، وله حضورُه الوازنُ في مشاريع تنموية كثيرة خارج التراب المغربي!!
ويضيف التقرير ما مفادُه: إن الزمن الذي كان المغرب فيه يقنع بدور ثانٍ من البطولة قد ذهب وولّى إلى غير رجعة، وحل محله زمن المغرب المستأثر بدور البطولة في مفهومها الريادي، محتلا مكانة مركزية ومحورية في مجال تأمين تموين متعدد ومختلف للأسواق الأوروبية، وفي مقدمة ذلك، التموينُ الغِذائي والطاقي، بعد أن شرع فعلا في تصدير الطاقة النقية والخضراء نحو بلدان الشمال، دون أن يمس ذلك احتياجاته الوطنية، والمثال الذي شكلته عملية الإغاثة المغربية الكهربائية باتجاه إسبانيا والبرتغال على إثر الانقطاعات المفاجئة للكهرباء بهذين البلدين، والسرعة والفعالية اللتان تمت بهما تلك الإغاثة، كل ذلك يُغني عن كل تعليق!!
وتعود هذه القفزة النوعية الكبرى، يضيف التقرير، إلى تدني تكلفة الإنتاج داخل المغرب، وتنامي مستويات تكوين وتأهيل اليد العاملة، فضلا عن الموقع الجيوإستراتيجي الذي يجعل المغرب، في آن واحد، قاب قوسين أو أدنى من الوطن العربي وإفريقيا وأوروبا وأمريكا، مما يجعل منه قطعة ملكية في رقعة شطرنج التجارة العالمية، ويزيد في دعم ذلك الموقع تركيزُ المغرب على صناعات ثقيلة، كالسيارات والطائرات، جعلته أحد أبرز مُمَوّني الاتحاد الأوروبي وجنوب المتوسط في هذه المجالات، التي صار المغرب آحد فرسانها الذين لا يُشَقُّ لهم غبار!!
ويزكي هذه القفزة أكثر فأكثر، اختيار المغرب خوضَ غمار الصناعات الدقيقة ذات الطابع الإستراتيجي، كرقائق السيليكون، وبطاريات الليثيوم، وشحنات الهيدروجين الأخضر... ودخوله عالم المعلوميات من بابه الواسع بإنتاج أول حاسوب مغربي مائة في المائة، وكل هذا، جعل له وضعاً مختلفاً عن كل بلدان محيطه العربي والإفريقي، وكذلك عن جانبٍ من محيطه المتوسطي، ليشكل بالفعل، ظاهرة وازنة تنصبّ عليها الآن عيون مختلف الباحثين والدارسين والمتتبعين لمختلف مجالات الشأن الصناعي والتجاري العالمي!!
ولأن هذا كله لم يكن كافيا، رغم إسهامه في إسالةِ لُعاب كبار المستثمرين من روسيا والصين وتركيا والهند، فضلا عن الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى وكندا وإسرائيل ودول الاتحاد الأوروبي، فقد ظهرت إلى الوجود مؤخرا احتياطيات مغربية مُهْوِلة لمعادن نادرة وباهظة القيمة، كالكوبالت، وهيدروكسيد الليثيوم، الذي جعل بدوره من المغرب لبنة رئيسية لا يمكن الاستغناء عنها في الصناعات العالمية المستقبلية!!
ونعود إلى مُزحتنا لنختم بها ونحن نطرح السؤال: "تُرى بأيّ الأعين سينظر إلى هذه الاستحقاقات عجزةُ النظام في ذلك العالم الموازي، الذي مازال وسيظل إلى أجل غير مسمى متمسكاً بأذيال لينين وستالين وكاسترو وغيرهم من أصنام الحرب الباردة؟!
أفيقوا يا ناس، يا عالَم، فإن على حدودنا الشرقية لَهاويةً ليس لها قرار... و"شوكة في عيون" أعلام نظامها الكسيح!!!
محمد عزيز الوكيلي، إطار تربوي متقاعد.
محمد عزيز الوكيلي، إطار تربوي متقاعد.