Wednesday 9 July 2025
فن وثقافة

الموت الثاني لـ"بيدرو لاين إنترالكو" النهاية الرمزية لآخر ورثة جيل 98

الموت الثاني لـ"بيدرو لاين إنترالكو" النهاية الرمزية لآخر ورثة جيل 98 بيدرو لاين إنترالكو وغلاف الكتاب
يييييُعد " بيدرو لاين إنترالكو" Pedro Laín Entralgo (1908-2001) آخر الأسماء التي مثّلت الامتداد المتأخر للفكر الذي نهض عليه "جيل 98" في إسبانيا. صحيح إن الرجل توفي جسديًا يوم 5 يونيو 2001، غير أن موته الرمزي ـ الفكري والثقافي ـ يمكن تأريخه مع انطلاق مرحلة الانتقال الديمقراطي سنة 1978، حين انطفأ إشعاعه الفلسفي، وخفت أثره في المشهد الفكري الإسباني الجديد. يهدف هذا المقال إلى تحليل مسار الرجل على هدي دلالات "الموت الثاني"، بوصفه لحظة الفقدان الرمزي لوظيفة المفكر داخل سياق اجتماعي سيقدر له أن يتغير بصورة جذرية خلال صيرورة تاريخية حاسمة.
 
1. "إنترالكو " والإرث الفكري لجيل 98
نشأ "إنترنالكو" في بيئة فكرية مشبعة بالكاثوليكية التقليدية، ووجد بعد حين في الأيديولوخيا الكتائبية falangista مناخًا ملائمًا لتطوير فلسفة في التاريخ والدين والهوية تنسجم من جهة مع الخصائص الفكرية العامة لجيل 98 (التشاؤم والتأمل والتجديد)، وتسعى إلى المُضيّ بها نحو أرخبيلات أخرى من نقد الواقع، والتشبث بالهوية، والدعوة إلى الإصلاح (وضع الرجل كتابا عظيم القدر بعنوان "جيل 98" ونشره سنة 1945). لم يكن إدراكه لإسبانيا سياسيًا صرفًا، بل انطوى على أبعاد لاهوتية وثقافية عميقة (من هنا مثلا كتابه "مشكلة الكينونة النصرانية"، برسلونة، 1997). وقد جعل من أفكار"جيل 98" مرجعية مركزية في أطروحاته الفكرية، لا سيما في كتابه "إسبانيا كمشكلة" (بين يديّ الطبعة الثالثة، أغيلار، مدريد 1962)، على الرغم من ماضيه الجمهوري، وانتسابه في فترة من فترات حياته إلى الحزب الشيوعي، ومعاناته لأوجاع المنفى في الجزائر وروسيا. وكان حضوره الفكري داخل تيار الكتائبيين المقرّبين من السلطة الفرنكية متميزا، حيث ارتبط بأسماء بارزة بَصَمَت الحياة العقلية والسياسية الإسبانية مثل "خافيير ثوبيري" (1898-1983)، و"أنطونيو طوفار" (1911-1985) و"كالفو سيرير" (1916-1988) وغيرهم، ولا سيما مع "خوصي لويس لوبث أرانغورين" (1909-1996) الذي سعى إلى رأب الصدع بين مفكري الإسبانيتين (إسبانيا المهزومة وإسبانيا المنتصرة في الحرب الأهلية (1936-1939) حين نشر مقالا مطولا تابع فيه ما أسماه "التطور الروحي للمثقفين الإسبان في المهجر"( عدد فبراير 1953من مجلة دفاتر إسبانو- أمريكية).
 
2. فكره خلال الحقبة الفرنكية
كان "إنترالكو" خلال عهد" فرنكو" (1892-1975)، شخصية فكرية ذات تأثير واضح؛ إذ دافع عن رؤية قدَريّة لإسبانيا، تقوم على فكرة الرسالة التاريخية المتعالية للأمة الإسبانية على غرار سلفه من "جيل 98". مدار أعماله خلال هذه الفترة كانت حول بضعة مفاهيم أخلاقية وسياسية متداخلة، مثل التضحية، والوحدة، والاستمرارية التاريخية، والمثالية الكاثوليكية، وأكد بذلك سعيه إلى صرف خبرته الطبية (الرجل طبيب حاذق بالمناسبة) في معالجة أورام إسبانيا، وحفظ عافيتها من الآفات السياسية والاجتماعية والثقافية التي أصابتها طيلة تاريخها.
 
3. الانتقال الديموقراطي وأفول المشروع الفكري
مع حلول الديمقراطية وتحوّل إسبانيا إلى دولة تعددية غير دينية، فقد الخطاب الذي أسّسه "أنترالكو" كثيرًا من وجاهته؛ إذ لم يعد للغة القدَر التاريخي والمطلقات الدينية نفس الحضور، وذات الألق، وتجاوزت إسبانيا عقب انتقالها الديموقراطي المفردات التي عاش في كنفها الرجل وأنتج خلالها بعض أعماله حتى حين نال "جائزة أمير أستورياس" في العلوم الاجتماعية سنة 1989، لم يُنظر إلى ذلك كاعتراف بقيمة فكرية راهنة، بل كنوع من التسوية الرمزية مع الماضي. أما حضوره في الساحة الثقافية، فقد تقلص بشكل لافت، نتيجة التباين بين رؤيته وإرادة مجتمع جديد متعطش إلى الانفتاح وشغوف بالحوار، ويسعى أحيانا إلى صرف أنظاره عن حقبة حزينة من تاريخه تُذكّره بها "قوانين الذاكرة التاريخية" الصارمة. ونرجح أن حصوله على "جائزة مينندث بيلايو العالمية" سنة 1991، كان بسبب الاعتراف بقيمة إسهامه في التأريخ للطب، وليس لمنزلته من الفكر السياسي الإسباني، وإن كان لا ينبغي للناظر الحصيف أن يبخس فضله في صياغة نمط مغاير في محبة إسبانيا، والانشغال بمصيرها، لم تكن لترضي الكثير من خصومه الإيديولوجيين.
 
4. الموت الأول والموت الثاني
نستعمل هاهنا تعبير "الموت الثاني" للإشارة إلى لحظة انتهاء الدور الرمزي والوظيفي لمفكر ما حين تتغير جذريا البنية الاجتماعية والسياسية التي عاش أطوارها. والمقصود بها في حالة "إنترالكو" وصحبه، تلاشي الرسالة التي نهض بها بوصفه ضميرًا ثقافيًا لمرحلة بعينها، فبعد سنة 1976؛ وهي السنة التي نشر فيها كتابه "راحة الضمير أو إبراء الذمة" Descargo de conciencia بدا واضحًا أن مشروعه الفكري بلغ مُنتهاه، وأن مفاهيمه لم تعد صالحة لتفسير إسبانيا الجديدة، بل أصبحت جزءًا من ماضٍ يُراد تجاوزه، ومن تركة ثقيلة يُجْتهدُ في التخلص منها، ويُتطلّعُ إلى صياغة "إسبانيا حيوية" ناسخة لإسبانيا الرسمية. هكذا مات الرجل مرة أخرى كمفكر لم يجد لنفسه موقعًا في التاريخ الجديد الذي تسعى إسبانيا أن تجد فيه أساسا صلبا لكينونتها بعد أن أدركت معنى أن تعيش "بِغَيْرِ عَمَدٍ" (هذا كتاب لـ"خوصي أورتيغا إي غاسيت" نقلته إلى العربية وصدر عن منشورات الجمل سنة 2016).
 
خاتمة
لم يكن" إنترالكو" مجرد شاهد على مرحلة اخْتُلِفَ فيها في "محبة إسبانيا"، بل كان مثالاً على حدود الفكر المنغلق على نماذجه التاريخية في محبتها. إن موته الثاني لا يعني إلغاءً لقيمته الفكرية، بل هو تسجيل لتحوّل الزمن وتغيّر الحاجات الثقافية، وتبدل المصالح السياسية. لقد أنهت الديمقراطية الإسبانية نظام" فرانكو"، وطوت معها صفحة كاملة من الوعي السياسي ـ الفلسفي الذي مثّله الرجل وأضرابه أمثال "رفاييل غرسية سيرانو" (1917-1988)، و "راميرو ليديسما" (1905-1936) و"إرنيستو خيمينيث كاباييرو" (1899-1988) و"سانشيز مازاس" (1894-1966) وغيرهم.
 
هكذا، فإن قراءة وفاته الفكرية تُمدنا بكثير من الحدوس والأفكار حول الصلة بين سلطة المعرفة المسنودة بالسلطان السياسي، وبين مآلاتها التاريخية، بين الوضع القائم المدجج بالسلاح، وبين آثار الزمن الذي يعمل عمله في الذخيرة بالفساد والتلاشي.
 
تطاون العامرة