السبت 18 مايو 2024
سياسة

بنكيران ينهزم في "حرب الشوارع" أمام عصابات "داعش"

 
 
بنكيران ينهزم في "حرب الشوارع" أمام عصابات "داعش"

هل من حق المغاربة الآن أن يشعروا بأنهم يعيشون في كنف الخوف، ما دام قصف "الهويات المتقاتلة" بدأ يحتل الجزء الأكبر من انشغالاتهم؟ فقد بدأ البعض يتحرك في الشارع العام وكأنه منذور للتفوق في اختبار الإيمان، وأنه يمتلك امتياز التخلي عن كل شيء في سبيل إجبار الآخرين على الامتثال إلى "شرع الله".

يلاقي هذا التحرك/ التدخل، الذي أصبح أكثر بروزا على الفايسبوك، دعما كبيرا من «الأصولية الدينية» التي تجعل الماضي أثقل من الحاضر، بل تجعله لحظة غير منقطعة لا يمكن تعريضها للتلف أو تجاوزها أو تغييرها. فالماضي، كما يفهمه الأصوليون، لحظة مصفاة، وأي محاولة لتدنيسها بالبدع ستقود المسلم إلى كارثة حقيقية إذا لم يقاتل في سبيل إنقاذها من الدنس. أما الحداثيون، فيعتبرون أن احتلال الأصولية للشارع بهذا الإفراط في التدخل، مؤامرة لإتلاف التاريخ ومحاولة سحب «المنجز الحقوقي» إلى الأسفل.

والنتيجة أن الحداثيين يعتبرون الأصوليين «موتى عائدين»، بينما يعتبر الأصوليون أن خصومهم كائنات شريرة غايتها القضاء على الإسلام وتغريبه، وأن الحل الأكثر إنصافا هو إبادتهم أو ترهيبهم وإجبارهم على مغادرة الشارع العام على الأقل، كنهاية سعيدة.

غير أن السؤال المطروح هو: لماذا يبدو أن السلطات تسمح بهذا «التمرين الهوياتي» الذي يقسم المغاربة إلى فريقين منفعلين، أحدهما لا ينصت إلى الآخر؟ أو بتعبير آخر، من يرعى هذا الضجيج الذي يثبت أن المغاربة -على الأقل مغاربة الفايسبوك- خرجوا عن رشدهم، وأنهم مستعدون تماما لتمزيق بعضهم البعض بكل الوجوه الممكنة؟

إن هذا الارتجاف الهوياتي أو القتل الرمزي على الهوية يفسح المجال للسلطات للتحكم في المسافة بين الفريقين على نحو أفضل، يقول بعض المراقبين. كما يسمح لها باحتلال الفضاء العام بكامله ما دامت هي الوحيدة القادرة على وضع قواعد «العيش في انسجام». إنها من يتحكم في حقن المجتمع بالجرعة المطلوبة من الأصولية أو الحداثة، وهي من يتحكم في أدوات المراقبة والضبط، وهي من يشرف على صنع «الأزمات» وحلها، وهي من يمد الجسور بين الفريقين أو يقطعها (لاحظنا كيف تدخلت الدولة من أجل تقريب وجهات النظر في الخلاف حول قانون الإجهاض).

وباختصار، فإن السلطات هي التي تسمح بظهور هذا الخليط المشوش من المذاهب والمعتقدات لتبرر أولا أنها تعمل، ولتبين ثانيا أنها سلطة تصطف إلى جانب المقموعين عقديا، وأنها ضرورية لإزالة كل رعب ممكن. وهذا ما يتيح لها توهيم الجميع بأنها حامية للقيم وساهرة على استمرارها. فالحداثيون ينظرون إليها كضرورة لأنها تحميهم من «تدعيش الشارع العام»، والأصوليون ينظرون إليها بحب ما دامت تسهر على ضبط قياسات التنانير طولا وقصرا!

ومع ذلك، يحق لنا أن نتساءل عن أسباب ارتفاع منسوب مياه الأصولية في الآونة الأخيرة، وعن أسباب اندلاع حرب المعتقدات بين الفريقين، وعن مدى اتساع الهوة بين هؤلاء وهؤلاء.

ينبغي أن نعترف أولا أنه من الحماقة إلغاء دور الحكومة الإسلامية في بروز "الهويات المتقاتلة". فوجودها الأصلي مرتبط بالعبور الحقيقي نحو دولة الخلافة، وولاؤها الحقيقي ينزاح إلى أمة الإسلام (التنظيم العالمي للإخوان المسلمين). ولذلك، فإنها تغالب من أجل إعادة المغاربة إلى الزمن الراشد، وتفضل أن تهلك دون هذا المسعى. بل إنها -وهذا ما صرح به وزير العدل والحريات أمام الأمين العام للمجلس الوطني لحقوق الإنسان في لقاء جمعهما ونقلته بعض وسائل الإعلام- تبني وجودها على حماية الله.. وبتعبير آخر، إنها تعتبر كل التوجهات التي لا تشاطرها هذا الرأي ضارة وتستحق السحق والإلغاء، بل إنها تعتبر أن وجودها، في سياق يمور بالخطر الداعشي، مشبع بحظوظ ملء جميع المساحات الفارغة التي أتاحها تراجع الأحزاب الوطنية، بتوافق تاكتيكي مهادن للمؤسسات، وببرنامج إستراتيجي متربص بالحكم. ولهذا، فإنها تتصرف بإحساس عميق بأنها صاحبة رسالة، وبأن الدور الأخلاقي هو الحاسم في استمرارها، وبأن مشروعها هو تقويض البرنامج المضاد للأصول. وهذا ما تكاد تعلنه صراحة جماعة «الإصلاح والتوحيد» -الجناح الدعوي لحزب العدالة والتنمية- التي تعمل على ضبط آلية السير بتوازن في السلطة، مع الاستمرار في التحرك كقوة ردع مضادة للحداثيين والحقوقيين وأنصار الحريات الفردية.

ولنا أن نتساءل: من يقف وراء مسودة القانون الجنائي المثيرة للجدل؟ لماذا يتحرك الإسلاميون في الفضاء العام بمثل هذا الإصرار على الاقتتال الهوياتي، وفي هذه اللحظة بالذات (ما قبل الانتخابات الجماعية)؟ ولماذا يسخرون الفضاء الافتراضي (الفايسبوك أيضا) من أجل «تدعيش» الشارع المغربي أو الإيهام بذلك؟ هل يخشون محنة ما؟ هل يتوقعون انقلابا عليهم؟ من يخاطبون في العمق؟ هل يخاطبون الحداثيين أم الدولة أم الحلفاء الأممين؟ ما الذي يجعلهم يشعرون بهذه الأحاسيس المؤلمة؟ ولماذا يدبرونها على هذا النحو؟ لماذا لا يدبرونها في المؤسسات عوض نقلها إلى الشارع؟

إنه من الواضح أن حقن الشارع بانزياحات أخلاقية معزولة (تنورة قصيرة، اعتداء جماعي على متحول جنسيا، حادثة اغتصاب طفلة أو معاقة، حماقات مخرج سينمائي، خيانة زوجية، الأكل المتعمد في رمضان...إلخ) يضبط إيقاع المغاربة على الخوف من الاختلاف، وعلى وضع ثقتهم في من يحمي هويتهم الإسلامية من التلف والضياع.

إننا لا ندري كيف ستتمكن تنورة قصيرة من الإطاحة بـ 15 قرنا من الإسلام، ولا ندري كيف يمكن لمتحول جنسيا أن يعاكس مطامح الفحول الذين أشبعوه ضربا معتقدين بأنه الدال الموضوعي وسيء السمعة على المسلك المعاكس للطبيعة؟

إن الاتجاه نحو تدعيش الشارع لا يعتبر مضايقة للشيطان وشلا لحركته، بل خدعة انتخابية من نوع خاص، ما دام الأمر يتعلق في نهاية المطاف بخطاب موجه نحو الغرائز، ذلك أن القاسم المشترك بين أغلب «القضايا الخلافية» هو الجنس.

فبينما يصر الإسلاميون على التعاقد الأخلاقي المبني على قواعد العفة والاحتشام، يرى الحداثيون والحقوقيون أن الجنس مسألة فردية ولا مجال لضبطها زجريا. وبعملية حسابية، فإن منطق الكثرة في مجتمع محافظ ومنغلق، هو الذي سيحسم هذا الصراع الانتخابي، وليس التقطيع أو البرنامج مثلا. إنه ضرب من استعراض القوة وإعلان الوجود، وترجمة فعلية لرسالة مفادها أن الإسلاميين رقم صعب في معادلة السلطة، وأنه ليس بوسع أي "سلطة" مهما بلغت قوتها ومستوى نفوذها أن تلغيهم من هذه المعادلة.

لقد أثبت التاريخ أن بروز «الهويات المتقاتلة» يكون دائما مسبوقا بمأزق ما.. فما هو المأزق الذي نعيشه اليوم؟ وهل التظاهر في الشارع مؤشر دال؟ ومن يقف أمام التظاهر؟ ومن المسؤول عن إثارة الانفعال؟

للجواب عن هذا السؤال علينا أن نتذكر جميعا الانقسام الذي وقع أثناء قيام حكومة الأستاذ اليوسفي بوضع "الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية"، وكيف تم الترخيص لمسيرتين مليونيتين متعاكستين في المطالب والتوجهات، الأولى قادها الحداثيون بالرباط، والثانية رعاها الإسلاميون بالدار البيضاء.. وعلينا أن نتذكر جميعا ما انتهى إليه هذا الصراع، وكيف تم حل الخلاف عبر آلية التحكيم الملكي. إنه نوع من الحوار بين القوى المتصارعة داخل المجتمع الذي يؤول إلى التوافق نحو ضبط التوازن حفاظا على الاستقرار.

وهنا لا بد من طرح سؤال آخر لا يقل أهمية: هل سيرضى الإسلاميون بالخروج من نشوة الانتصار الانتخابي الكاسح الذي حققوه سنة 2011؟ وهل سيلذ لهم اقتسام المنافع السياسية مع غرمائهم الحداثيين؟ هل سيتحلون بالتواضع أم أنهم يعتبرون البقاء في السلطة قضية مقدسة، وأن الدرع الأخلاقي هو السلاح القوي الذي سيبز الراغبين في إبعادهم؟

إن «تدعيش الشارع» يعني فيما يعنيه بالنسبة للإسلاميين هو أن السلطة لا تصبح قابلة للاحتمال إلا إذا كانوا جزءا منها، وأن كل ترتيب آخر هو سفالة بالغة ينبغي التصدي لها بضراوة. ولنا في التجربة المصرية خير دليل، حيث اتحد الإخوان المسلمون مع قوات البغدادي والسلفيين من أجل العودة إلى الحكم بقوة السلاح. وما يهم هو الغلبة، وليس الأمن والاستقرار. ولن ينجو من البطش إلا من صبغ عقيدته بطلاء إسلامي، وإلا من أعلن جهارا أن حقوق الإنسان بدعة وأن كل بدعة ضلالة.. وكل ضلالة في النار.

نستنتج من ذلك أن الإسلاميين، وعلى رأسهم البيجيدي، لا يتعاملون مع الشارع كركيزة يختبرون فيها مدى التجاوب مع سياساتهم العمومية، بل كخزان لتزود بالقوة وبعث الرسائل المشفرة.. وإظهار أنفسهم بأنهم يمثلون الشرعية الشعبية، وبأن لا مناص للدولة من إدخالهم في حسابها لأنهم يمثلون الشيء المثالي لاستمرارها.

إن «تدعيش الشارع» المغربي وفسح المجال أمام الأصوليين للعب أدوار شرطة الأخلاق وتدبيج المحاضر للتنورات القصيرة والقمصان المفتوحة والسراويل اللصيقة (وربما لاحقا: تجريم الاستماع إلى الموسيقى أو الدخول إلى المسرح والسينما أو الرقص..) تحولت إلى قضية حيوية بالنسبة لأصدقاء بنكيران ماداموا يعتبرون أن السلطة «سياسة ملعوبة» وأن لغة الإشارات -حتى لو اقتضى الأمر فبركة مظاهرة في الشارع العام- عنصر حاسم في الاستمرار. غير أن ثقافة داعش سحر يمكن أن ينقلب على صاحبه، وعلى كل المشترك الذي ما زال يسمح لنا بالانتماء إلى ما يسمى بـ «الاستثناء المغربي» حتى الآن.

(تفاصيل أخرى عن هذا الموضوع تقرأونها في العدد الجديد من أسبوعية "الوطن الآن"، تجدونه متوفرا في كل الأكشاك)

Couv-une