لم يعد المسلم في الغرب يبحث عن مسجد يسلّي وحدته الروحية فحسب، بل صار يبحث عن ملجأ يطمئن فيه قلبه، وعن منبر يُعيد ترتيب فوضى الحياة الحديثة . غير أنّ هذه المهمة المقدّسة التي كان يقوم بها المسجد عبر القرون باتت اليوم تواجه امتحاناً عسيراً، بعدما تسلّلت إليها أهواء الجماعات، وضوضاء الصراعات، ومصالح من يقدّم الانتماء الحزبي على الإيمان، والجماعة على العقيدة.
فالمنبر الذي كان في زمن النبوة موضع الحكمة والسكينة، صار في بعض البلدان الأوروبية ـ للأسف ـ ساحة استقطاب، تتنازعها الأيديولوجيات والتيارات والمرجعيات، حتى كأن بعض الأئمة يتعاملون مع المسجد وكأنه “غنيمة من غنائم الحرب”، لا بيت من بيوت الله تعالى. ولذا ترى الخطيب يصعد المنبر وفي صدره مشروع جماعة لا مشروع أمة، وميل قلب وهوى، لا ميل شرع ودين، ثم يحدّثك عن التقوى وهو منغمس في عصبية جاهلية لا تختلف كثيراً عمّا نهى الله عنه حين قال: "وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا" . ولأنّ الهجرة أذاقت المسلمين في الغرب وجهاً جديداً من الهشاشة، فقد أصبحوا أكثر عرضة لمن يتاجر بهمومهم، بل حتّى بقبورهم . فقد نبتت مراكز اسلامية وجمعيات تتخذ من قضايا الجاليات المسلمة سلماً لجمع التبرعات، ومن أحزان المهاجرين وهمومهم رأس مال لا يخسر، ولا يتورّع بعض القائمين عليها عن ابتزاز المسلم عند المرض، وعند الحاجة، بل وحتى لحظة الدفن في الغربة؛ حيث تتحول تكاليف القبور إلى “مزاد علني” وتتحول كرامة الميت إلى ورقة تفاوض . وهنا يتردد في النفس قول النبي ﷺ: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام"، فإذا كان المال حراماً في الحياة، فهو في الموت أشد حرمة وإثماً عند الله تعالى .
ولم تقف الفتنة عند حدود المال، بل تخطتها إلى صراع أئمة المساجد أنفسهم: هذا يطعن في هذا، وثالث يكفّر زميله لا لشيء إلا لأنه لا ينتمي إلى جماعته أو لا يحمل “الترخيص” الصادر عن مؤسسة اسلامية، أو دولة معينة. فيتحول المسجد إلى ركام من الخصومات، ويغيب عن الجميع قول النبي ﷺ: "أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخصم" ، وقوله ﷺ: "بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" .
إنّ خطبة الجمعة في الغرب ليست مجرد خطاب ديني، بل هي شريان حياة. هي الرابط الأخير بين المسلم وبين هويته، وهي المدرسة التي تُنشئ أبناء الجالية على التوازن بين الانتماء الديني والاندماج الإنساني. ولهذا فإن واجب التجديد فيها ليس ترفاً، بل ضرورة وجودية. والتجديد الذي يحتاجه المنبر ليس تجديداً يعبث بالأصول أو يفرّغ الرسالة من مضمونها، بل تجديدٌ يعيد للخطبة وظيفتها الأولى: أن تكون هداية لا دعاية، وبناءً لا اصطفافاً، ونصيحةً لا تحريضاً .
تجديد يُعيد الوعي بأنّ الإمام في الغرب ليس “موظف جماعة” بل وارث نبوّة، وأنّ الخطيب ليس صدىً لتيار اسلامي ما، بل صوتٌ للحقّ، يحمل أمانة ثقيلة شهد الله عليها حين قال: "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ" . لقد تعب المسلم في الغرب من أن يكون وقوداً لصراعات لا تعنيه، وتائهًا بين ولاءات لا تفيده، ومؤمناً يبحث عن منبر فلا يجد إلا منصّة حسابات حزبية. وهو يدرك، بحسّه الفطري، أنّ الدين أوسع من الجماعات، وأنّ الإسلام أكبر من المؤسسات والجمعيات، وأنّ المسجد يجب أن يبقى مكاناً يرفع فيه المؤمن دعاءه إلى الله، لا مكاناً ينزل به إلى مستوى الخصومات الدنيوية .
إنّ الأزمة الحقيقية ليست في نصوصنا المقدسة، فهي محفوظة بحفظ الله، ولا في تراثنا فهو غنيّ بما يُصلح كل زمان، بل في قلوبٍ ضاقت، ونفوسٍ تنافست، ومنابر اختُطفت من روحها الأولى .
ويبقى الرجاء أن يعود المنبر كما كان: نوراً لا ناراً، جمعاً لا فرقة، ورشدًا لا تجارة...
فإذا صلح المنبر، صلح المسجد، وإذا صلح المسجد صلحت الجالية، وإذا صلحت الجالية أصبح الإسلام في الغرب وجهًا مشرقًا لا يحتاج إلى دفاع، لأن نور الحق لا يحتاج سوى أن يُترك يُضيء .
ويبقى الرجاء أن يعود المنبر كما كان: نوراً لا ناراً، جمعاً لا فرقة، ورشدًا لا تجارة...
فإذا صلح المنبر، صلح المسجد، وإذا صلح المسجد صلحت الجالية، وإذا صلحت الجالية أصبح الإسلام في الغرب وجهًا مشرقًا لا يحتاج إلى دفاع، لأن نور الحق لا يحتاج سوى أن يُترك يُضيء .