Sunday 26 October 2025
Advertisement
كتاب الرأي

منير لكماني: وهم الريادة.. حين تُعلَّب العقول في أقسام أنيقة

منير لكماني: وهم الريادة.. حين تُعلَّب العقول في أقسام أنيقة منير لكماني
تغدو المدرسة مرآةً للمجتمع، وما إن تغيّر وجهها حتى تتبدّل ملامح الأجيال القادمة. حين رُفع شعار «الريادة»، استبشر الناس بمدرسةٍ جديدة تُعيد الاعتبار للتعليم وتفتح أبواب الأمل، غير أن البريق سرعان ما انطفأ حين تبيّن أن الاسم أكبر من الفكرة، وأن ما يُقدَّم في العلن إصلاح، وفي الخفاء إعادة إنتاجٍ للأخطاء نفسها بثوبٍ جديد.
 
الرهان على الشكل
انبثق مشروع «مدارس الريادة» في إطار خطةٍ طموحة لإصلاح التعليم، بدعمٍ مالي خارجي، وبتصوّرٍ يعتمد ما يُسمّى «التعليم الصريح»؛ أسلوب يقوم على تلقينٍ مباشر ومراحل مضبوطة، يَهدف إلى تحسين مستوى الفهم في وقتٍ قياسي. في المبدأ، الفكرة مغرية، لكنها في الممارسة تُفرغ التعليم من جوهره الإنساني، وتحوّل القسم إلى فضاءٍ للامتثال لا للتفكير.
 
تلميذ الحفظ لا الفهم
يُطلَب من التلميذ في هذه المدارس أن يستمع، يحفظ، ويُعيد ما سمعه بحذافيره. لا يُشجَّع على التساؤل، ولا يُحفَّز على الإبداع. وهكذا، يغدو التعلم فعلاً آلياً، تنتصر فيه الذاكرة على الفهم، ويُختزل الذكاء في القدرة على التكرار. قد تظهر النتائج على الورق مُبهرة، لكنّها تُنتج جيلاً يُجيد الامتحان، ويجهل الحياة.
 
المعلم بين الطاعة والإلهام
لم يعد المربي في قلب العملية التعليمية، بل أضحى منفذاً لتعليماتٍ تُرسل من أعلى. تُقيَّم كفاءته بمدى التزامه بالمنهج لا بمدى تأثيره في التلميذ. حين يُختزل دوره في التنفيذ، يفقد التعليم روحه، وتذبل تلك العلاقة الخفية بين الأستاذ وتلميذه التي كانت تصنع المعنى قبل أن تصنع العلامة.
 
صفقات في الظل
ترافق هذا المشروع صفقات ودراسات تقييمٍ أُسندت إلى مكاتب محددة دون منافسةٍ واضحة، ما يثير أسئلة حول الشفافية. فالإصلاح الحقيقي لا يُبنى بالأموال وحدها، بل بالنزاهة والمحاسبة. وما لم تكن المدرسة فوق الشبهات، فلن تستعيد ثقة المجتمع ولا احترامه.
 
نتائج رقمية.. بلا مضمون
تفاخر الأرقام بارتفاع نسب النجاح، لكنّها تخفي وراءها واقعاً هشاً. تُخفَّف الامتحانات وتُضخَّم النقط لتبدو الصورة وردية، بينما يظل التلميذ عاجزاً عن التفكير النقدي أو التطبيق العملي لما تعلّمه. حين تُصبح النتيجة غاية في ذاتها، يُضحَّى بالقيم، ويُفرَّغ التعليم من روحه.
 
هوية مفقودة
تستند التجربة إلى نماذج أجنبية صُمّمت لبيئاتٍ مختلفة، فغاب الانسجام بين الفكرة والواقع. فبدل أن تُبنى المدرسة على خصوصيات المجتمع وحاجاته، صارت تُدار بوصفات جاهزة، تُفرض من الخارج وتُطبّق على الداخل دون تكييف. الريادة لا تكون بالاستيراد، بل بالابتكار الذي يُعبّر عن الذات.
 
المستقبل على المفترق
سيواجه خريجو هذه المدارس صدمةً حين ينتقلون إلى مراحل تعليمية مختلفة، لأن ما بُني على الحفظ لا يصمد أمام متطلبات الفهم والتحليل. التعليم سلسلة متكاملة، لا تُصلح حلقة منها بمعزلٍ عن الأخرى، ولا يُبنى جيلٌ ناقد بعقلٍ اعتاد الطاعة.
 
أسئلة لا تنتهي
هل يمكن لتعليمٍ يُقصي السؤال أن يصنع التقدّم؟
وهل نملك شجاعة الاعتراف بأن الريادة ليست في الأسماء، بل في الإنسان الذي نصنعه؟
حين تعود المدرسة إلى رسالتها الأولى: أن تُنير العقل لا أن تُلقّنه، وأن تُربّي على الوعي لا على الامتثال، حينها فقط يمكن أن نتحدث عن ريادةٍ حقيقية، لا عن وهمٍ مزيّن بالسبورات الرقمية والعناوين اللامعة.