نحو تجديدٍ أم انهيار؟
في خضم التحولات الاجتماعية والسياسية العميقة التي يعرفها المغرب، تبرز أزمة النخبة كواحدة من أكثر الظواهر دلالةً على اختلال التوازن بين الدولة والمجتمع، بين منطق الكفاءة ومنطق الولاء.
فهي ليست مجرد أزمة في الأشخاص أو في تدبير المواقع، بل أزمة قيمٍ وتصوراتٍ، عنوانها الأبرز تراجع مبدأ الاستحقاقية (الميريوقراطية)، وسيادة منطق الزبونية والمصالح الضيقة على حساب روح المسؤولية الوطنية.
لكن، في قلب هذا التشخيص، لا يمكن تحميل المسؤولية للنخبة وحدها؛ إذ أن جزءًا غير يسير من الأزمة يجد جذوره أيضًا في سلوك الناخبين أنفسهم، الذين أسهم بعضهم، عن وعي أو عن لامبالاة، في إنتاج نفس النمط من النخب المحلية والجهوية، رغم علمهم المسبق بضعف كفاءتها وغياب غيرتها الوطنية.
فحين يُمنح الصوت الانتخابي بدافع القرابة أو المنفعة أو العصبية، بدلًا من الكفاءة والنزاهة، يتحول المواطن من ضحية إلى شريكٍ في تكريس الرداءة وسوء التدبير.
أولاً: جذور الأزمة – بين التاريخ والاختيارات الاجتماعية:
تاريخيًا، تشكلت النخبة المغربية ضمن بنيتين متداخلتين:
• المخزن كسلطة ضامنة للاستقرار.
• والخاصة كشبكة من المصالح العائلية والاقتصادية والدينية.
وقد أدّى هذا التركيب إلى إغلاق الحقل النخبوي أمام الطاقات الجديدة، حيث ورث الأبناء مواقع الآباء، واستمر منطق الولاء الشخصي محل الكفاءة الوطنية. ومع مرور الوقت، تحولت المؤسسات من فضاء لتداول السلطة إلى منصات لتبادل الولاءات.
غير أن هذه الأزمة ما كانت لتتفاقم لولا ضعف السلوك الانتخابي، الذي سمح – في كثير من الدوائر – بعودة نفس الوجوه التي فشلت في التدبير أو تورطت في أنماط من الفساد أو الزبونية.
إن تكرار التصويت على أشخاص يفتقرون إلى الكفاءة يعبّر عن أزمة وعي مدني، ويكشف محدودية ثقافة المساءلة السياسية لدى جزء من الناخبين.
فالناخب الذي يختار على أساس المنفعة الشخصية لا يمكنه بعدئذٍ أن يشتكي من سوء التدبير الجماعي، لأنه كان جزءًا من عملية إنتاجه.
ثانيًا: المؤسسة الملكية كقوة إصلاحية ودعامة للاستحقاق
في مقابل هذا الانحراف، تظل المؤسسة الملكية الفاعل المركزي في إعادة التوازن إلى الحقل العمومي.
لقد وجّه الملك محمد السادس، في أكثر من خطاب، انتقادات واضحة لسلوك بعض المسؤولين المنتخبين والإداريين، ودعاهم إلى التحلي بروح الوطنية الصادقة، وخدمة الصالح العام بدلًا من خدمة المصالح العائلية أو الحزبية.
إن المؤسسة الملكية تبذل جهدًا مستمرًا لتخليق الحياة العامة، وتجويد أداء الدولة عبر مقاربة تقوم على ربط المسؤولية بالمحاسبة، وتكريس الكفاءة كمعيار وحيد لتولي المناصب.
وقد أكد الملك مرارًا أن المسؤولين هم “مساعدو المؤسسة الملكية” في خدمة الوطن، وليسوا أصحاب امتيازات.
هذا التوجه يشكل دعامة حقيقية لبناء نخبة جديدة تنبثق من روح المواطنة والجدارة، لا من منطق الريع والولاء الشخصي.
ثالثًا: نتائج الأزمة.. تراجع الفعالية وصعود الاحتجاج
لقد ترك غياب الاستحقاق، مقترنًا بتواطؤ جزء من الناخبين، بصماته الواضحة على السياسات العمومية:
فالمشاريع التنموية تتعثر، والقرارات تُتخذ بمنطق المصلحة الضيقة، والإدارة تُصاب بالترهل والبطء.
تقرير النموذج التنموي الجديد (2021) أشار صراحة إلى أن ضعف الحكامة وتداخل الولاءات من بين أبرز معيقات التنمية في المغرب.
في هذا السياق، برز جيل Z كقوة اجتماعية جديدة، ترفض الخطاب التقليدي وتطالب بالنجاعة والعدالة.
هذا الجيل، المولود بين 1997 و2012، يتفاعل من داخل الفضاء الرقمي، وينتقد بشدة ما يسميه بـ”المنظومة النخبوية المغلقة”، كما أظهرت احتجاجات 2025 (جيل زد 212) التي استخدمت منصات رقمية كـDiscord لتنظيم النقاش والفعل الجماعي، مما يؤشر إلى تحولٍ نوعي في الوعي السياسي والاجتماعي.
رابعًا: تجاوز الأزمة – مسؤولية مشتركة بين الدولة والمجتمع
تجاوز الأزمة يتطلب مقاربة شمولية لا تكتفي بإصلاح النخبة من الأعلى، بل تُعيد أيضًا بناء الوعي المدني من الأسفل.
فالإصلاح الحقيقي يبدأ من سلوك الناخب، الذي عليه أن يدرك أن صوته ليس سلعة ولا منّة، بل مسؤولية وطنية.
كما أن بناء نخبة جديدة يمر عبر:
1. ترسيخ ثقافة الاستحقاق والمحاسبة، وربط المسؤولية بالنتائج لا بالانتماءات.
2. إعادة تأهيل الحقل الحزبي والنقابي لتجديد نُخبه وفتح المجال أمام الشباب والنساء.
3. تحصين السلوك الانتخابي عبر التربية المدنية والإعلام المسؤول، حتى لا يتحول التصويت إلى ممارسة عاطفية أو زبونية.
فلا يمكن للمغاربة أن يطالبوا بحكامة رشيدة إذا استمروا في مكافأة الرداءة بالصوت الانتخابي.
المجتمع الناضج هو الذي يحاسب عبر الصندوق الانتخابي، ولا يُعيد إنتاج نفس الوجوه التي أساءت تدبير شؤونه.
خاتمة: نحو مصالحة بين الكفاءة والمسؤولية
أزمة النخبة ليست قدرًا محتومًا، بل فرصة لإعادة تأسيس العلاقة بين الدولة والمجتمع على قاعدة جديدة من الثقة والكفاءة والمساءلة.
وإذا كانت المؤسسة الملكية تفتح أفق التجديد من خلال مشاريع الإصلاح والتخليق، فإن المواطنين، بدورهم، مطالبون بالتحلي بمسؤولية انتخابية ووطنية تليق بمستقبل البلاد.
إن الانتقال من الولاء إلى الكفاءة لا يتحقق بخطابٍ فوقي فقط، بل بضمير انتخابي يقظ يدرك أن صوت المواطن يمكن أن يكون وسيلة إصلاح أو أداة فساد.
فالنخبة لا تُمنح، بل تُنتَخب.
والمغرب، بما يملكه من إرادة ملكية صادقة وطاقات شبابية واعدة، قادر على تحويل الأزمة إلى فرصة لبناء نموذج وطني جديد يقوم على الجدارة، والعدل، والوطنية الفاعلة
الدكتور فؤاد إبن المير
باحث في علم الاجتماع