من بين الوجوه الخفية في مهنة التعليم، يبرز التعب الإدراكي (fatigue cognitive) كأحد أكثر أشكال الإرهاق عمقا وأقلها إدراكا. إنه التعب الذي لا يظهر في الملامح، لكنه يسكن الذاكرة والانتباه والقرار. المدرس لا يستهلك طاقته في الجهد الجسدي فقط، بل في إدارة شبكة معقدة من العمليات الذهنية والعاطفية المتشابكة: الإنصات، الملاحظة، التخطيط، وضبط المواقف في لحظة واحدة. وحين تستمر هذه العمليات دون فترات تعاف كافية، يبدأ العقل بالتعب قبل الجسد، وتبدأ المهنة بفقدان توازنها الداخلي.
يقصد بالتعب الإدراكي حالة من الانخفاض التدريجي في كفاءة الوظائف التنفيذية (fonctions exécutives) المسؤولة عن الانتباه واتخاذ القرار، والمرونة الذهنية. وفي السياق المدرسي، يتولد هذا التعب نتيجة تراكم مهام معرفية دقيقة ومتداخلة. فالمدرس ينتقل بسرعة بين الشرح والتقويم والإنصات والتهدئة، ما يؤدي إلى تحمل معرفي مفرط (charge mentale élevée) يستهلك موارد الوعي والذاكرة العاملة.
تبدو هذه العمليات اعتيادية، لكنها تستهلك كمية ضخمة من الطاقة العقلية غير المرئية. وهنا يكمن الخطر: تعب لا يرافقه ألم واضح، لكنه يحدث تباطؤا خفيا في التفكير، وتآكلا تدريجيا في الحضور الذهني.
يعيش المدرس داخل بيئة مليئة بالمثيرات والانقطاعات الدقيقة: سؤال مباغت، ضوضاء، خلل تقني، أو ملاحظة سلوك غير منضبط. كل حدث صغير يفرض إعادة ضبط للانتباه، ما يضاعف العبء الذهني.
ثم تأتي التعددية الانتباهية (multitâche) لتزيد الطين بلة؛ فالمدرس مطالب بمراقبة عشرات المتعلمين، وتعديل شرحه، واستحضار معارفه السابقة في اللحظة نفسها. هذا الجهد المستمر لا يسمح للعقل بالتعافي، فيتحول اليوم الدراسي إلى ماراثون إدراكي خفي.
يترجم التعب الإدراكي إلى مؤشرات صغيرة ولكنها دالة: تباطؤ في الاستجابة، تكرار في التعليمات،
نسيان تفاصيل، أو فقدان الخيط المنطقي أثناء الشرح.
ومع الزمن، تتراجع جودة التقويم وتغيب الدقة اللغوية والحجاجية.
يتخذ التعب أحيانا شكلا عاطفيا: نفاد صبر، انفعال سريع، أو رغبة في العزلة. كل هذه الأعراض تبدو جزئية، لكنها تعكس اختناق النظام الذهني للمدرس تحت وطأة الحمل المعرفي المزمن...
كثيرا ما يتم الخلط بين التعب الإدراكي والاحتراق المهني (burnout professionnel). الأول مؤقت وقابل للاسترجاع بالراحة الذهنية والتنظيم الزمني، أما الثاني فهو حالة مزمنة تشمل الانهاك النفسي وفقدان المعنى.
غير أن الخطر يكمن في التحول التدريجي: حين لا يعترف بالتعب الإدراكي ولا تتاح فرص التعافي، يصبح مقدمة حتمية للاحتراق الشامل...
التعب الإدراكي هو الوجه الهادئ للأزمة الصامتة في مهنة التعليم. إنه تعب بلا صوت، لأن مصدره في داخل الوعي لا في الجسد. وحين يهمل، يتسلل إلى اللغة، إلى العلاقة البيداغوجية، إلى صورة الذات المهنية.
لذلك، فإن إصلاح المدرسة يبدأ من الاعتراف بأن الانتباه طاقة قابلة للنفاد، وأن رعاية المدرس معرفيا هي استثمار في ديمومة التعلم نفسه. فحين نحمي عقل من يعلم، نحافظ على المعنى الذي تتأسس عليه كل تربية....