في الدول التي قطعت أشواطا في بناء منظوماتها الصحية، يشكل النقل الصحي العمود الفقري للاستجابة في الحالات المستعجلة، لأنه يحدد في دقائق قليلة مصير المريض بين الحياة والموت. أما في المغرب، فإن الواقع يكشف صورة قاتمة، إذ يعيش قطاع النقل الصحي منذ سنوات وضعية كارثية تتفاقم يوماً بعد آخر في غياب رؤية إصلاحية واضحة وتراكم اختلالات هيكلية عميقة جعلت حياة المرضى والأطر الصحية في خطر دائم. فبدل أن تكون سيارات الإسعاف رمزاً للأمل، تحولت في كثير من الأحيان إلى عنوان للمعاناة والفقدان.
الحادثة الأخيرة قرب مدينة بوعرفة أعادت هذا الملف إلى واجهة النقاش العمومي. فقد تعرضت قابلة شابة لكسور متعددة وإصابات خطيرة بعد انقلاب سيارة إسعاف كانت ترافق فيها امرأة حامل وسائق، أثناء نقل من مستشفى تالسينت نحو المستشفى الإقليمي الحسن الثاني. الحادثة، التي خلفت صدمة كبيرة في صفوف الأطر الصحية والرأي العام المحلي، تكشف هشاشة المنظومة برمتها، ليس فقط في حماية المرضى وإنما حتى في حماية من يفترض أنهم حماة الحياة في الصفوف الأمامية.
هذه ليست الواقعة الأولى ولن تكون الأخيرة. فقد سجلت السنوات الماضية عدداً من الوفيات بسبب حوادث انقلاب أو اصطدام سيارات الإسعاف، شملت أطرا صحية و نساء حوامل وأطفالاً ومرضى في حالات حرجة فقدوا حياتهم، إما بسبب ضعف التجهيزات الطبية أو بسبب التأخر في التدخل. الأخطر أن هذه الحوادث غالباً ما تمر في صمت، دون فتح تحقيقات شفافة أو استخلاص الدروس اللازمة لإصلاح الأعطاب العميقة التي تنخر هذا القطاع الحيوي.
تشير تقارير وطنية متعددة إلى أن العرض الصحي في مجال النقل يظل ضعيفا وغير منصف، حيث يبقى عدد سيارات الإسعاف المتوفرة بعيداً عن المعايير الموصى بها دوليا، كما أن جزءا كبيرا من هذه العربات لا يحترم الشروط التقنية والتجهيزية اللازمة للقيام بدورها كوحدات طبية متنقلة.
هذا الخصاص البنيوي يجعل التدخلات في الحالات الحرجة محفوفة بالمخاطر، ويؤثر مباشرة على فرص إنقاذ الأرواح في مختلف مناطق البلاد.
المعاناة لا تقتصر على المرضى وحدهم، بل تمتد إلى تقنيي الإسعاف والأطر التمريضية المرافقة الذين يشتغلون في ظروف قاسية. هؤلاء الجنود المجهولون يفتقرون للتجهيزات الأساسية والوسائل الوقائية، ويعيشون ضغطا مهنيا ونفسيا كبيرا في ظل غياب التحفيز والحماية.
وزاد الوضع تعقيدا استمرار الاعتماد على سيارات وسائقي الجماعات الترابية رغم افتقارهم للتكوين، مما يحول عملية النقل الصحي إلى مجرد نقل ميكانيكي للأشخاص بدل أن يكون تدخل علاجي وإنعاش ينقذ الأرواح.
أما القطاع الخاص في النقل الصحي فلا يقدم نموذج أفضل. إذ تشتغل في المغرب أكثر من 300 شركة، لكن ثلثها فقط يملك تراخيص قانونية بينما يظل الباقي خارج أي مراقبة حقيقية. أغلب هذه الشركات لا تتوفر على مقرات فعلية أو تجهيزات أساسية، وأكثر من 80% من العاملين بها لم يتلقوا أي تكوين متخصص. الأخطر أن 90% من سيارات الإسعاف الخاصة لا تتوفر على حاضنات لحديثي الولادة أو أدوات الإنعاش الضرورية، مما يجعل حياة الفئات الهشة في خطر دائم.

المفارقة المؤلمة أن المغرب أطلق برامج إصلاح متعددة تحت شعار تعميم الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية الشاملة، لكن قطاع النقل الصحي ظل خارج دائرة الاهتمام. فبين وعود الإصلاح وواقع الحوادث المتكررة تتسع الهوة يوماً بعد يوم، ويضيع المواطن بين بيروقراطية وزارة الصحة والحماية الاجتماعية وتشتت المسؤوليات بين الجماعات الترابية والوقاية المدنية والقطاع الخاص.
إننا اليوم أمام مسؤولية تاريخية: إما أن تتحرك الدولة لوضع سياسة وطنية موحدة للنقل الصحي تقوم على تجهيز سيارات إسعاف حديثة وموحدة، وتكوين موارد بشرية متخصصة عبر فتح مسالك للتدخل الميداني داخل المعاهد العليا للمهن التمريضية وكليات الطب، مع إخضاع القطاع الخاص لمعايير صارمة ومراقبة فعالة، أو أن يستمر نزيف الأرواح والحوادث تاركاً سيارات الإسعاف رمزاً للموت بدل الحياة.
إن الوضع لم يعد يحتمل التسويف أو الشعارات. كل وفاة أو إصابة داخل سيارة إسعاف هي إدانة صريحة لسياسات عمومية غائبة، وتذكير قاسٍ بأن الحق في الصحة والحق في الحياة في المغرب ما يزالان رهينين بالارتجال وسوء التدبير.
