Thursday 22 May 2025
خارج الحدود

ادريس الفينة : ليبيا بين الفوضى والوحدة.. قراءة استراتيجية للوضع الراهن والآفاق المستقبلية

ادريس الفينة : ليبيا بين الفوضى والوحدة.. قراءة استراتيجية للوضع الراهن والآفاق المستقبلية
في ماي 2025، تعود ليبيا مجددًا إلى صدارة المشهد الإقليمي والدولي، لا بصفتها بلدًا يتعافى من حرب أهلية استمرت لسنوات، بل كأرضٍ مهددة بالانهيار الكامل أو التحول الجذري. من الواضح أن الدولة الغنية بالنفط تقف عند مفترق طرق حاسم، تحكمه معادلة دقيقة بين قوى التفكك والصراع من جهة، وجهود المصالحة والوحدة من جهة أخرى. تحليل المعطيات الميدانية، السياسية، الاقتصادية والإنسانية يكشف عن مشهد معقد، لكنه ليس بلا أفق.
 
أولًا: الانقسام السياسي والتدهور الأمني
تُختصر الأزمة الليبية اليوم في انقسام حاد بين حكومتين متنافستين: حكومة الوحدة الوطنية (GNU) في طرابلس، المعترف بها دوليًا منذ 2021، وقوات الجيش العربي الليبي (LAAF) المسيطرة على الشرق والجنوب، والتي تدير مناطقها عبر بنية إدارية موازية. هذا الانقسام لم يعد فقط سياسيًا، بل تجذّر أمنيًا ومؤسساتيًا واقتصاديًا، مما يعزز سيناريو التقسيم الفعلي.
الاشتباكات الدامية في طرابلس يوم 12 مايو 2025، إثر اغتيال قائد ميليشيا محلي، بين لواء المشاة 444 وجهاز دعم الاستقرار (SSA)، والتي أودت بحياة 8 مدنيين وجرحت أكثر من 70 آخرين، تُظهر هشاشة الوضع الأمني وغياب الدولة. تعليق العمليات في مطار معيتيقة الدولي وإغلاق المدارس، إضافة إلى نزوح عشرات العائلات، يعكس كيف أصبحت الحياة اليومية رهينة للنزاعات المسلحة.
 
ثانيًا: مسارات سياسية متعثرة رغم الوساطات
رغم الجهود الأممية المتواصلة، لم تنجح بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا (UNSMIL) حتى الآن في إخراج العملية السياسية من مأزقها. المحادثات التي أعيد إطلاقها في مارس 2024 بين مجلس النواب (طبرق) والمجلس الأعلى للدولة (طرابلس) لم تنجح في التوصل إلى قوانين انتخابية توافقية. وبقيت الانتخابات المؤجلة منذ ديسمبر 2021 دون أفق زمني محدد، في ظل استمرار الخلاف حول الأسس الدستورية.
وفيما يُعد محاولة لترميم الثقة، تدفع UNSMIL نحو صياغة قانون مصالحة وطني يتضمن العفو، جبر الضرر، وكشف الحقيقة، لكن المشروع لم يُعتمد بعد من قبل البرلمان. غياب هذا الإطار القانوني الشامل يعزز مناخ الإفلات من العقاب ويُكرّس الانقسام.
 
ثالثًا: أزمة اقتصادية خانقة تُعمّق الأزمة السياسية
تشكل العائدات النفطية 90% من الاقتصاد الليبي، لكن هذا المورد الحيوي تحول إلى أداة ضغط متبادلة بين القوى المتنافسة. النزاع حول قيادة البنك المركزي الليبي في أغسطس 2024 أدى إلى تجميد التحويلات البنكية، إغلاق حقول نفط، وانخفاض حاد في قيمة الدينار الليبي. ورغم تعيين محافظ جديد في سبتمبر 2024 باتفاق برعاية أممية، لم يُستأنف النشاط الاقتصادي بالكامل.
كما يثير تأسيس صندوق إعادة الإعمار بقيادة نجل المشير حفتر، بلقاسم، مخاوف تتعلق بالحوكمة والشفافية، خصوصًا في سياق تعافي درنة بعد فيضانات 2023. التحول من اقتصاد ريعي هش إلى نموذج تنموي متنوع لا يزال بعيد المنال في ظل غياب استقرار سياسي ومؤسسي.
 
رابعًا: الوضع الإنساني – جراح لا تلتئم
التبعات الإنسانية للنزاعات والانقسامات في ليبيا خطيرة للغاية. بعد فيضانات درنة التي أسفرت عن وفاة الآلاف في 2023، لا يزال أكثر من 44,000 شخص نازحًا بحلول يونيو 2024، وسط بطء في جهود الإعمار وغياب بنية تحتية فعالة. وفيما يخص المهاجرين واللاجئين، تفيد بيانات UNHCR أن هناك أكثر من 760,000 مهاجر و77,000 لاجئ يعيشون في ظروف قاسية، بينهم 180,000 لاجئ سوداني دخلوا البلاد منذ أبريل 2023. التعذيب، الاعتداء الجنسي، والعمل القسري لا تزال سلوكيات موثقة من قبل منظمات حقوقية.
 
خامسًا: التدخل الدولي – دور أممي حذر وصراع نفوذ إقليمي
تلعب الأمم المتحدة دورًا محوريًا في الوساطة، لكن تدخلها يظل محدودًا في ظل تباين المصالح الدولية. بينما تسعى UNSMIL لفرض خارطة طريق شاملة، لا تزال القوى الإقليمية والدولية تتعامل مع الملف الليبي بمنطق النفوذ، مما يضعف فاعلية الوساطات. المحكمة الجنائية الدولية تفتح بدورها ملفات جرائم الاحتجاز والاختفاء القسري منذ 2014، لكن دون نتائج ملموسة حتى الآن. دعوات التهدئة التي أطلقتها الولايات المتحدة وتركيا وبنغلاديش بعد اشتباكات طرابلس تبقى رمزية في ظل غياب خطة ضغط فعّالة.
 
سادسًا: أي مستقبل ينتظر ليبيا؟
ليبيا، في هذا السياق، أمام سيناريوهين متناقضين. الأول، استمرار الانهيار، في ظل الانقسامات السياسية، وانفلات السلاح، وانعدام الثقة، وتراجع الثروات الوطنية. الثاني، أمل في التعافي عبر مسار طويل يبدأ بمصالحة وطنية صادقة، بدعم أممي وإقليمي، وتُبنى على خمسة ركائز رئيسية:
 
 1. إطار سياسي موحد يقود إلى انتخابات وطنية نزيهة.
 2. إصلاح شامل للقطاع الأمني يدمج الميليشيات داخل هيكل دولة مؤسسي.
 3. تنويع اقتصادي يعيد هيكلة الموارد ويقلص التبعية للنفط.
 4. عدالة انتقالية تُنصف الضحايا وتؤسس لثقة اجتماعية جديدة.
 5. شراكة دولية مسؤولة توازن بين السيادة والدعم، دون فرض أجندات.
 
ليبيا ليست دولة منهارة، لكنها ليست دولة متعافية أيضًا. بين من يراها “فريسة دولية” ومن يؤمن بـ“قدرة الليبيين على تجاوز المحن”، يكمن الواقع في التوازن الهش بين هذه الرؤى. إن نافذة الأمل ما تزال قائمة، لكنها تضيق كلما طال أمد الانقسام. الاستقرار ليس خيارًا ترفيًا بل ضرورة وطنية وإقليمية، والمصالحة الشاملة ليست أمنية بل شرط وجود.