الخميس 28 مارس 2024
في الصميم

المغرب.. شوكة في حلق الجيش الجزائري والإسباني

المغرب.. شوكة في حلق الجيش الجزائري والإسباني

حكمت الجغرافيا على المغرب أن يكون له جاران مزعجان: في الشرق نجد الجزائر، وفي الشمال إسبانيا. كلا هذين الجارين ظل همهما الأساسي طوال السنوات الخمسين الماضية هو الانشغال بمسألة إضعاف المغرب والإبقاء عليه في حالة الوهن.

بالنسبة لإسبانيا إذا كان العسكر والساسة يختلفان في عدة نقط، فإنهما يتوحدان حول هدف واحد، ألا وهو تركيع المغرب، خاصة بالنسبة للجيش الإسباني الذي يعتبر (إلى جانب الحزب الشعبي) من أشد أعداء المغرب، ليس لأن الجيش الإسباني لم يبتلع كيف أن المغرب (وهو الحديث العهد بالاستقلال) تمكن عام 1975 من استرجاع الصحراء من قبضة فرانكو دون إطلاق رصاصة واحدة، بل لأن التوجهات الجيوستراتيجية للعسكر الإسباني تنبني بالأساس على أن الخطر الإسلامي مازال محدقا بالنسبة للإسبان، وهناك واجهة واحدة تشكل منبع هذا الخطر، وهي المغرب، بالنظر إلى أن الإسبانيين تترسب لديهم عقدة الغزو المغربي في عهد المجد الإسلامي. وهي العقدة التي لم يتجاوزها الإسبان إلي اليوم، بدليل القول المأثور عندهم «شوف المورو (أي المغاربة) واش كاينين في البلايا»، وهي إحالة إلى اختراق المغاربة للبحر الأبيض المتوسط في الماضي لفتح الأندلس.

الحديقة الخلفية

من هنا نفهم ذاك الضغط الذي تمارسه إسبانيا، ليس لإضعاف المغرب فحسب، بل لدفعه للتخلي نهائيا عن المطالبة بسبتة ومليلية المحتلتين. هذا الضغط يتم تصريفه عبر البحث عن كل ما يمكن أن يورط المغرب في قضايا داخلية (قضية الصحراء، المخدرات، إلخ..).. ولم يشفع انضمام المغرب للحلف الأطلسي كملاحظ في تهذيب الموقف الإسباني بشأن المطلب المغربي لاسترجاع سبتة ومليلية، على اعتبار أن إسبانيا تزهو بالموقف الأوربي أثناء أزمة احتلال جزيرة ليلى عام 2002، حينما صدر بلاغ للاتحاد الأوربي يعتبر جزيرة ليلى «جزءا من التراب الأوروبي»!

تأسيسا على هذه الوقائع نفهم سر تدفق الدعم المالي واللوجستيكي للحكومات الإسبانية (المركزية والجهوية والبلدية) نحو البوليساريو، ليس «إيمانا» بـ «عدالة قضية شعب»! بل إيمانا بأن البوليساريو هي الحصى التي تدمي قدم المغرب. وإلا لماذا لم تتحرك كل تلك الآلة الدعائية والتمويلية بإسبانيا لمساندة الشعب الفلسطيني الذي تؤمن معظم المجتمعات الإنسانية بعدالة قضيته؟ ولماذا لم تنبض قلوب الإسبان بالتعاطف مع حركات التحرر بأمريكا اللاتينية؟

والأفظع أن مطالب المغرب حرام، لكن «فلوسه» حلال. إذ في ظرف 15 سنة أصبحت إسبانيا هي الشريك الاقتصادي الثاني للمغرب بعد فرنسا، بعد أن حازت الشركات الإسبانية على معظم الصفقات بمدن الشمال وبالدار البيضاء خاصة، لدرجة أن المغرب أضحى بمثابة الملجأ الضامن لإنعاش رقم معاملات مختلف الشركات الإسبانية، وهي الوضعية التي سال لها لعاب الإسبان بسبب تكلس المسؤولين المغاربة وتخلفهم عن تنويع الشركاء وعدم قدرتهم على فتح شهية مستثمرين من دول أخرى (أسيوية وأوربية)، مما جعل الإسبان يستغلون المغرب على واجهتين: الواجهة السياسية عبر تصريف المشاكل الداخلية لإسبانيا بالتركيز على إضعاف وتركيع المغرب. والواجهة المادية بجعل المغرب بمثابة الحديقة الخلفية للاستثمارات الإسبانية لحلب البلاد والعباد، مستغلة ظروف الفقر والبطالة وضيق خيال المسؤولين المغاربة في ابتكار آليات وطرق جديدة لخلق دينامية اقتصادية جديدة.

زرع الألغام

أما بالنسبة للجزائر، فإن المشكل أكبر وهو العجز في تجاوز عقدة المقارنة مع دولة عمرها 50 سنة (الجزائر ولدت عام 1962) ودولة أخرى عمرها أزيد من 1400 سنة (أي المغرب)، لدرجة أن مختلف المسؤولين الذين تعاقبوا على الجزائر صعب عليهم التخلص من هذه العقدة، وقادتهم هذه المشكلة المرضية إلى تسخير كل الإمكانيات لشحن شعب الجزائر ضد المغرب دون أن يصلوا إلى المبتغى، بدليل أن الحدود المغربية الجزائرية لما فتحت بين 1989 و1994 وقع «تسونامي» جزائري نحو المغرب، زكته تلك الأرقام المهولة من تدفق الجزائريين على المغرب للتبضع أو للسياحة أو الاستكشاف، بشكل أظهر فشل عملية التعبئة ضد المغرب. وهو الفشل الذي تتخوف سلطات الجزائر من مواجهته مرة ثانية في حالة ما إذا فتحت الحدود من جديد بين الدولتين. وما زاد الوضع التباسا في حالة الجوار مع الجزائر أن المغرب أثناء حرب الصحراء لم يلجأ إلى استعمال ورقة الملاحقة ضد عناصر البوليزاريو (le droit de poursuite) داخل التراب الجزائري بشكل جعل الجزائر تؤول الموقف المغربي وكأنه ضعف، فتمادت في تصلبها، خاصة وأن المغرب كان قاب قوسين أو أدنى من «ابتلاع الجزائر» في مناسبتين: الأولى في حرب الرمال عام 1963 لما أمر المرحوم الحسن الثاني جنوده بالعودة، علما أنهم كانوا على مشارف دخول تندوف؛ والثانية عام 1976 أثناء حرب أمغالا حينما استجاب الملك الراحل لوساطات دول خليجية، وأمر جنوده بإطلاق سراح الفيالق الجزائرية المعتقلة قرب السمارة، وأمر بوقف الملاحقة داخل التراب الجزائري. وهذا ما يفسر كيف أن الجزائر منذ ذاك الحين وهي تضع منصب سفيرها في الرباط ليس مطلوبا منه تجسير (من الجسر) العلاقات أو تمتينها مع المغرب بقدر ما يطلب منه السهر على تنفيذ أدق التعليمات المركزية الصادرة من الجزائر لزرع الألغام بالمغرب (ولتكن هذه الألغام بالصحراء أو بالجامعات أو بتمويل شبكات ترويج القرقوبي...).

صحيح أن السياسة الخارجية لكل دولة محكومة بأولويات. وأولويات سياسة المغرب الخارجية هي «الحفاظ على حسن الجوار»، وداخل هذا التصنيف نجد ذاك الحرص (المبالغ فيه) من طرف الرباط في ترتيب العلاقة مع إسبانيا في المرتبة الأولى بدعوى «وجود مصالح معها ومع أوربا ومع الحلف الأطلسي». وبالتالي، حسب هذا الطرح، يصعب تأزيم الوضع معها، خاصة وأن حدودنا مغلقة في الشرق، وسيزداد الوضع سوءا إذا أغلقت شمالا. موازاة مع هذا الترتيب تنحو السلطات العمومية نفس المنحى مع الجزائر عبر جعل رد فعل المغرب مرتبطا مع ما يأتي من الخارج، أي موقف لا يبحث عن افتعال أزمة بقدر ما يعمل على تدبير الأزمات.

فإن شاء القدر أن يكون المغرب متجاورا مع جارين تحكمهما مؤسسات عسكرية ومالية حقودة، فإن النباهة والذكاء هي أن يستلهم المسؤولون المغاربة نماذج مشرقة من العالم (مثلا حالة كوريا الجنوبية مع جارتها الشمالية) بأن يتم تنويع الشركاء والحلفاء عبر العالم حتى لا يبقى المغرب رهينة الأورثوذوكس في المؤسسة العسكرية بإسبانيا والجزائر.