الأربعاء 24 إبريل 2024
كتاب الرأي

عبدالحميد العدّاسي: مَن المفسِد

عبدالحميد العدّاسي: مَن المفسِد عبدالحميد العدّاسي
أقلّب ملفّاتي فأجد منها ما هو ببعض التّغيير حريّ بإعادة النّشر، وقد استوقفني موضوعٌ بعنوان (مَن المفسد)، كان قد نُشر يوم 01 /01 /2004 على صفحات تونس نيوز الغرّاء، تناول رسالة أمّ زياد المفتوحة الموجّهة إلى السّيد محمد الصّغير الشّرعبي رئيس الدّائرة الرّابعة عشر لمحكمة الاستئناف بالعاصمة، بتاريخ  29 /12/2003، والتي نُشِرت بذات الصّحيفة تونس نيوز يوم 30 ديسمبر 2003، والتي أظهرت فيها وبها كَمْ بَخَسَ بعضُ الذّكورِ الرُّجُولةَ قيمتها وحقّها في تونس الحبيبة، وهم يحذفون من قواميسهم تلك المفردات التي رَفَعَتْ بِهَا (أمّ زياد) صَوتَهَا في ذلك التّاريخ أي قبل أن يطالها بعد الثّورة الانحرافُ القاتل الذي أرداها وكاد يمسح آثارها من التّاريخ لولا إصرارُنا على إثبات المواقف واستحسانها لمّا كان فيها ما يُحسّنها؛ فقد رفعت وقتها صوتها تقول: أقول كفى... إنّي أرفض المشاركة في هذا الحفل لأنّي أكره الأقنعة لنفسي ولغيري من عباد الله القضاة والمحامين... لقد قرّرت أن أريح وأستريح... لن يكون هناك متّهمة...أنا لست مجرمة... إنّني ومهما يكن الحكم الذي سَيَصدُر في شأني سأواصل السّير في طريقي وسيواصل قلمي مع سائر الأقلام المناضلة الأخرى...
مفردات لو ثبت عليها النّاس، قوم "فراعنة العصر"، لما بقي بتونس متسلّط ولا جبّار... وقد فقِهَ "الفراعنة" هذا الأمر مُتّعظين بموقف السّحرة مع الفرعون الأوّل، مدركين أنّ الكلمة الحرّة وإعطاء الفرصة لإبداء الرّأي قد تكون المعول القادر على هدم كلّ ما شيّدوا من أغلال وأصفاد لتكبيل النّاس واستعبادهم. ولقد تمنّيت أن يتناول النّاس أو ما يسمّى الشّعبُ مَوقفَ السّحرة، أولئك الذين لم يمنعهم انتماؤُهم الحديثُ للحاشية المقرّبة من فرعون من قول كلمة الحقّ، بأكثر بيان؛ فإنّه موقف يحكي مضمونَ التّصرّفِ الذي يجب أنْ نتصرّفه ونثبت عليه {قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَيٰ مَا جَآءَنَا مِنَ اَ۬لْبَيِّنَٰتِ وَالذِے فَطَرَنَاۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍۖ إِنَّمَا تَقْضِے هَٰذِهِ اِ۬لْحَيَوٰةَ اَ۬لدُّنْيَاۖ} (طه: 71)، وهو كلام قريب ممّا قالته (أمّ زياد) التي لم تُرجع مثلهم حولها إلى حول الله تعالى: "إنّني ومهما يكن الحكم الذي سيصدر في شأني سأواصل السّير في طريقي وسيواصل قلمي مع سائر الأقلام المناضلة الأخرى".
إنّ هؤلاء "الفراعنة" الأذلّاء قد اشتركوا مع الفرعون الأكبر الأوّل في بعض الصّفات أو بعض التّصرّفات إلاّ أنّهم تخلّفوا عنه كثيرا في بناء حضارة تحاكي أو تقارب حضارته، واستبدلوا سَحَرَتَهُ بطوابير طويلة من الحرس والشّرطة وأمن الدّولة ولجان الأحياء و"القوّادة" و"الصّبّابة" والسّجّانين والجلّادين والقضاة والإعلاميّين و"المناضلين" والنّقابيّين ممّن أكل أكلهم وشرب شربهم فخلط خلطهم ونطق بحمدهم، وسبقوه أشواطا طويلة إلى اقتراف المفاسد ومعاشرة الرّذائل.  
وكي لا يكون الكلام نظريّا أو تصوّرا يُجرّئُ حرّاس الفساد على دحضه، فإنّي ألتزم بالحديث عمّا سمعت أو عرفت في مؤسّسة عملي السّابقة، ممّا يتعلّق بفساد "فراخ الفراعنة". وما هذا السّواد إلّا من ذاك الدّكّان. 
فأوّل ما يبادر به الفاسد هو إحاطته بزمرة ممّن يشبهونه خُلقا وسُلوكًا؛ فالسّارق يحيط نفسه بالسّارقين، والزّاني بالزّناة، والكاذب بالكاذبين، والفاجر بالفجّار، والدّيوث بذوي الدّياثة، والجاهل بذوي الجهالة، والمدمن بالمدمنين، والحاقد على الدّين وأهله (وما أكثر هذا الصّنف) بمتّبعي الهواء. وأمّا أكثرهم أخْذا بالأسباب فيحيط نفسه بكلّ هذه الأصناف "المانعة" جميعا. ثمّ يعمد بعد ذلك إلى "رسكلتهم" وتطوير مكتسباتهم الخادمة للولاء. ثمّ - ولإحكام السّيطرة عليهم - يعمد إلى توريطهم في بعض القضايا أو المواقف لإلجام أفواههم وجعلهم (وهم كذلك) من سقط المتاع الذي تتأذى الأرض الجامدة من دلفانه على ظهرها. ولعلّ المثال يزيد من البيان ويحفِّز بعض الأنفس على الاقتداء بـمن يرفض سلوك هؤلاء الذين تحكّموا في رقابنا وكبّلونا بتهم الفساد والرّجعيّة والتّطرّف والإرهاب ومحاربة الدّيمقراطيّة؛ فقد كان أحد الفاشلين لا يحسن من العمل إلاّ التّزلّف إلى العَرْفِ "الفاسد" وكان هذا الأخير يبالغ في إكرامه بالمنح والأعداد الخادمة لترقيته في السّلّم الوظيفيّ، حتّى إذا خَبِرَ حِرصَه على المنصب وعلى الجاه وتأكّد من حسن تربيته له طلب منه خدمة "بسيطة" تمثّلت كما بلغني - والعهدة على المبلّغ - في الزّواج من بنت كان "عَرْفُنَا" قد لعب بشرفها والتهم عذريتها، فلم يتردّد بطلُنا في الاستجابة إليه، علّه يكون ممّن ستر كُربةً من كُرَبِ الدّنيا؛ {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُۥ فَأَطَاعُوهُۖ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماٗ فَٰسِقِينَۖ} (الزّخرف: 54).
وقد يتساءل القارئ: ما مناسبة هذا الكلام وهذا التّجريح؟! والجواب أنّي أريد أن تجد التّهم ومنها تهمة "عصابة مفسدين" أصحابَها الحقيقيّين فتلصق بهم، بدل أن تظلّ مسلّطة على رؤوس خيرة أبناء هذه البلاد السّاكنين وراء القضبان أو وراء البحار.. أريد أن تسير المرأة التّونسيّة في شوارع بلدها آمنة على نفسها من تحرّش المتحرّشين الذين ما وُجِدوا إلاّ بحماية الفاسدين لهم وبالتّعامل معهم ومقاسمة غنائمهم؛ إذ كيف يمكن حماية الأخلاق مثلا وأفسد النّاس أخلاقا هم الذين يشرفون على حمايتها، حتّى ليتناولون ربّ العزّة ﷻ بالسّباب والشّتائم لعنهم الله تعالى!.
أريد أن يتجرّأ كلّ مواطن - من موقعه - على رؤية الحقّ حقّا والباطل باطلا وأن نقف جميعا موقف سحرة فرعون – دون أن نحذق السّحر مثلهم – مردّدين في وجوه هؤلاء الفاسدين وبصوت عالٍ واضحٍ لا تردّد فيه ولا تلعثم:  {لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَيٰ مَا جَآءَنَا مِنَ اَ۬لْبَيِّنَٰتِ 
وَالذِے فَطَرَنَاۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍۖ إِنَّمَا تَقْضِے هَٰذِهِ اِ۬لْحَيَوٰةَ اَ۬لدُّنْيَاۖ} ...