الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

إدريس الأندلسي: مؤسسة رئاسة الحكومة و"المعيار السياساوي" 

إدريس الأندلسي: مؤسسة رئاسة الحكومة و"المعيار السياساوي"  إدريس الأندلسي
 "غابت شمس الحق وصار الفجر غروب"...
لا يمكن أن أبدأ في الكلام عن مؤسسة رئيس الحكومة دون أن أترحم على رجال الدولة الذين سيروا حكومات سبقت  الحكومات الثلاث الأخيرة. "سوق المعيار سوق مطيار" والداخل إليه يفقد الوقار  والإحترام ولكنه أيضا يدخل البلاد في مسار مدمر لثقة الأجيال المغربية بشيبها  وشبابها في مؤسسات بلدهم بل وفي بلدهم. 
حين يبدأ مسلسل الانحطاط على مستوى الكلام الذي أخجل أن اسميه بالسياسي، فأعلم أيها المواطن أن أصحابه لهم من  الخلفيات ما يخيف ومن الأساليب ما يشكل الخطر على مستقبلنا أجمعين.  التطاحن الكلامي غير المسؤول بدأ، في شكله الشعبوي والمستعمل لكلام الشوارع  وبعض المقاهي، منذ أن تساكن حزب العدالة و التنمية مع "أضداده ". قد يقال أن عبد الرحمان اليوسفي قد تساكن مع الأضداد ولكن فترة التناوب التوافقي كانت التزاما سياسيا بالأساس و وفرت لحظة ثقة  وسكينة خلال انتقال العرش من المرحوم الحسن الثاني إلى وارثه محمد السادس. اليوسفي وبعده  إدريس جطو ثم عباس الفاسي  ظلوا ملتزمين بقواعد تكاد تحرم الدخول في مستنقع الكلام. 
أما اليوم فمن الممكن أن نفرق بين وسائل اكتساب الثقافة السياسية. هذه  الأخيرة ليست  وجبة سريعة تبتلع دون تذوق  ودون المرور من دروب المعرفة بتاريخ المغرب  وتاريخ  الإنسانية  في نسبيته  وعلاقته بموازين القوى  وما ترتب عنها من ممارسات حاول الأقوى أن تصير قيما  مطلقة يعنف منتقدها  وينعت بالمجرم. هكذا حكمت الأقلية عبر التاريخ إلى آخر مريض ديكتاتور غير مسار شعب من محب  ومبدع للثقافة الحرة إلى مبايع لدكتاتور نازي يحارب المطلق و النسبي بإسم المطلق من حقيقته.  
كم ابتعدت عن الموضوع.  عفوا لأني جنحت إلى درجات عليا من القيم لا تتوفر في من يتناطحون حول جزء من سلطة القرار في بلادي. خرجات بنكيران  وأخنوش والناطق بإسمه، الطالبي العلمي رئيس هذا المجلس البرلماني الذي لم يعد للكبار فيه إلا لحظات لإبداء رأي في دقائق حول قضايا تهم  مستقبل الأمة.  في هذا  الزمان، انبرى العائد  العنيد إلى قيادة العدالة والتنمية للهجوم على من كانوا بالأمس يمسكون بكل شيء في حكومته. قبل في البداية بالاستغناء عن حزب الاستقلال بعد وصول شباط إلى قيادة هذا الحزب  وارتمى في حضن حزب التجمع الوطني للأحرار، وقد كانت هذه الخطوة بداية النهاية. واستمر بنكيران في التفريط في ميكانيزمات القرار حتى أصبح جزءا من  الجزء.  و أصبح هذا الجزء هو صاحب القرار الذي  أسقطه  وفرض العثماني المسالم  و الذي استسلم أمام من  امتلكوا القرار  وعلى رأسهم أخنوش  ووزارئه التقنوقراط الذي تم صبغهم بالأزرق الحمامي.  وبالطبع طغت الألوان الجديدة لتطفو على سطح القرار الحزبي داخل التجمع للقضاء على ما تبقى من إرث أحمد عصمان. 
وتبقى ما تبقى من أيام مصطفى المنصوري الذي انقلب عليه تقنوقراط قادهم صلاح الدين مزوار  الذي لم يصمد أمام تيار أخنوش إلا لفترة معلومة. وبعد ذلك بدأت المواجهة من داخل الحكومة.  وقبل حزب العدالة والتنمية مصادرة قراره  و دعانق زعماؤه عن طيب خاطر من سينقضون عليهم بعد مرور أيام قليلة. بعد صلاة استخارة سريعة، والله اعلم، سلم الحزب الإسلامي مفاتيح القيادة إلى من سيحاربه بعد شهور.  وكان ما كان من حيل التقنوقراط من استغلال لتدبير سيء لمجالس ترابية  واستعلاء في التعامل مع المواطنين وانخراط تام في سياسة ليبرالية لإسقاط أصحاب بنكيران من القمة إلى الحضيض خلالانتخابات لا يمكن أن تسر الناظرين  والملاحظين. 
و لأن من طبع من دخل المعركة الرجوع إلى الميدان،  رجع بنكيران إلى الميدان بعد أن أضاع خلفه العثماني رأسمال حزبي  بني بقوة الخطاب  ولو على حساب مطالب شعبية ملحة. كانت الساحة تغلي من جراء ملف المتعاقدين  والتخلي  الجزئي  والمهم  عن صندوق  المقاصة و مواجهة حامية للمنظمات النقابية.  فكان  ما كان  والتف الحبل على عنق قيادة الحكومة بمباركة من حلفاء  وخصوصا من طرف التجمع الوطني للأحرار.  وللسياسة قواعد خبيثة نسي أهل العدالة و التنمية  أنها صعبة  و قاسية  ومدمرة.  حين انفرط عقد العدالة و التنمية من حول بنكيران ظهر تيار المستوزرين  وعاشوا لحظة انتشاء سرعان ما مرت فوجدوا أنفسهم خارج المحيط  الحكومي  وامتيازاته  ورحلوا  ولن يرجعوا.  ولكن عبد الإله بنكيران ينتمي إلى طينة من لا يستسلموا،  فقد عاد من جديد إلى قيادة حزبه المهزوم  و أعاد الساعة إلى  الصفر ليبدأ الهجوم.  هجوم لا يمكن استصغار نتائجه في ظل أزمة لم تتميز الحكومة في حسن تدبيرها. 
المعروف في العمل السياسي أن.من فقد الأغلبية  والمناصب  و مراكز القرار لا يمكن أن يخفي رغبته في مهاجمة من يظن أنهم غدروا به.  و قد يقول أن معركته بدأت تحت شعار " علي  و على أعداءي ". و لعل الأعداء المفترضون لم يكن لم من الوعي السياسي ما  يدفعهم إلى  الانجرار إلى مواجهة حزب مجروح  يسكنه شعور  "بالشمته" من طرف من جعلهم طرفا مهما في منظومته الحكومية. 
وصل بنكيران من جديد إلى رئاسة العدالة والتنمية  وبدأ عمله بعناد  و رغبة في تصفية كل  الحسابات. انطلقت معركته من خلال فضح ما سماه "بالمؤامرة " التي حيكت ضده.  المعركة منتوج إعلامي جيد على الفضاء الأزرق الذي يتجاوز بكثير الفضاء الكلاسيكي الذي تؤطره وسائل التواصل التقليدية. وقد ينقلب السحر على الساحر..ضد حزب بنكيران الذي لا زال يؤكد أن كل  الفضل يرجع له في مجال الإصلاحات الماكرواقتصادية وتلك التي تتعلق بالتضامن الإجتماعي  المباشر.  وبالطبع سيكون الهجوم من موقع الضحية أقوى من الرد عليه من طرف من يقود الحكومة. 
ورغم الحضور الضعيف في البرلمان، يظل حزب بن كيران حاضرا في  المشهد السياسي أكثر بكثير ممن لهم الكثير من المقاعد في الهيئات التشريعية.  ورغم كل الأخطاء  والهفوات التي صاحبت قيادة هذا الحزب للعمل الحكومي، لا  زال المجال مفتوحا أمامه لإعادة نوع من الحضور في المستقبل. المشاكل التدبيرية للاقتصاد  وللقضايا الإجتماعية لا زالت حاضرة بقوة  والتغيير المنتظر من أغلبية كبيرة  ومكونة من أحزاب ثلاثة لم  يصل إلى مرحلة لمسه من طرف المواطن. 
و في هذا الإطار تستمر المناوشات الكلامية بين بنكيران  وأخنوش  على المباشر.  بنكيران يستصغر وزيره السابق في الفلاحة  ويفضح طلبه للتوسط لدى عاهل البلاد من أجل قضايا تهم جهة في مغرب الجهات.  و اخنوش يرد على أن الإنجاز في حكومته يتعرض لهجوم غير مبرر.  ولأن أخنوش ليس من قدماء التجمع الوطني للاحرار، فقد اوكلت مهمة الرد على بنكيران  إلى العلمي رئيس مجلس النواب. وانطلقت معركة " السب و الشتم" بأقدح النعوت.  اختلطت التشبيهات بالحيوانات  و بالصفات المتعلقة بالمواطنة الضريبية  وبتلك التي تتعلق بالالتزام بحقوق العمال في مؤسسات رئيس مجلس النواب  ، وستستمر بقضايا تهم أسعار البنزين لتصل في القريب إلى قضايا قد تهم تهرب من الضرائب.. و أخرى الله يعلم بفحواها. 
المعركة الكلامية بين حزبين، لا يمكن أن نقول أنهما يتعارضان في مجالات الإختيارات الإقتصادية بل  يتقاطعان، تسير فى اتجاه  الزج بالبلاد في مجال فضح ضعف تدبير الكثير من السياسات القطاعية التي  رصدت لها عشرات الملايير من الدراهم.  ولعل 55 مليار التي رصدت للتنمية القروية منذ سنوات  والتي كلف بتدبيرها رئيس الحكومة الحالي  وملايير المغرب  الأخضر  والأزرق  الرقمي  والصناعي تحتاج إلى كثير من التقييم. 
 كل سطر قرأته في تقارير لجنة نموذج التنموي الجديد  تبين الفرق الكبير بين السياسات العمومية و نتائجها. ولكن  المعارك الكلامية ستنتصر على جوهر السياسات العمومية. 
والمشكل العميق  والذي لا زال عصيا على الفهم هو موقف المؤسسات العمومية ذات الأثر على تدبير الانتخابات من الصراعات الطبيعية بين الأحزاب. ما وقع خلال الانتخابات الأخيرة غير  لا يبعث على  الاطمئنان. البلطجة أي إستخدام ذوي القوة الجسمانية  والصوتية من طرف أطراف التنافس في ظل حياد سلبي لبعض الإدارات ليس بالشيء الذي لن يكون له أثر على مستقبل الممارسة الانتخابية.  لقد عشنا مرحلة صنع  و جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية  ومراحل خلق الأحزاب من طرف الوزير القوي الذي رحل  و محاولة خلق بديل مكون من خلطة سحرية يمينية  و يسارية  وباحثة عن جذور لا توجد، وشهدنا أن السياسة تخضع لمنطق التراب  و تأثره بتجدر النباتات أو  باندثارها. 
 سوف يستمر  "لمعيار " ولن يسلم من تبعاته أحد. ولكن الوطن يحتاج إلى ذوي العقول وإلى من يرجحون كفة الصالح العام على مصالحهم الخاصة اقتصادية كانت أو ايديولوجية.