الأحد 28 ديسمبر 2025
كتاب الرأي

نادية واكرار: الذات المغربية بين التعدد والإدماج

نادية واكرار: الذات المغربية بين التعدد والإدماج نادية واكرار
متى يصبح التعدد ثراءا، ومتى يتحول إلى عبء وجودي؟
 
سؤال مجرد مدخل فكري، بل بوابة لقراءة الذات المغربية المعاصرة، التي تحمل في جوهرها تراكمات لغوية ودينية وفلسفية وثقافية معقدة. فاللغة ليست أداة للتواصل فحسب، بل إطارًا للتفكير وتمثّل العالم. وحين تتحول إلى هوية مغلقة، تفقد حريتها، وحين تختزل في وظيفة محايدة، تفقد بعدها الإنساني العميق. إن الإشكال المطروح اليوم لا يكمن في التعدد في حد ذاته، بل في غياب وعي فلسفي قادر على إدماج هذا التعدد داخل بنية الذات المغربية المركبة.
 
الإنسان المغربي ليس كيانا أحادي الهوية، بل هو نتاج مسار تاريخي وثقافي متعدد الروافد... فهو أمازيغي في الجذور، عربي في اللغة الرمزية والدينية، إفريقي في العمق الجغرافي، متوسطي في الامتداد الحضاري، وغربي في التكوين الأكاديمي والفكري الحديث. غير أن هذا التعدد، بدل أن يتحول إلى عنصر غنى، غالبًا ما يُنتج حالة من التشظي الهوياتي، أو ما يمكن تسميته بالخراسة الثقافية الجماعية، حيث تتعايش المكونات دون إدماج واعٍ، وتتقاطع دون ترتيب، فتفقد الذات انسجامها الداخلي...
 
في هذا السياق، لا يمكن فهم الإدماج بوصفه سياسة اجتماعية أو خطابًا مؤسساتيًا فقط، بل باعتباره عملية نفسية وفكرية ذات بعد وجودي. فالإدماج يعني القدرة على ترتيب الهويات الداخلية، وبناء علاقة انسجام بين اللغات والثقافات والمرجعيات المختلفة. وهو مسار يبدأ من الفرد، لأن ذاتًا غير متوازنة داخليًا تعجز عن إدماج الآخر أو التفاعل معه بشكل سليم. وهنا يتجلى التحدي الفلسفي المركزي، المتمثل في كيفية تحويل التعدد إلى مصدر ثراء، لا إلى عبء وجودي، وكيفية بناء الذات داخل هذا التعدد دون إنكار أو انقسام.
 
تُعدّ اللغات من أبرز تجليات هذا التحدي. فاللغة العربية، بما تحمله من حمولة رمزية ودينية، غالبًا ما تُوظَّف كأداة انتماء أكثر من كونها أداة تفكير نقدي حر. أما اللغة الفرنسية، فغالبًا ما تُختزل في بعدها النفعي والتقني، رغم قدرتها على فتح آفاق معرفية وجمالية واسعة. في حين تحضر الأمازيغية كلغة سابقة على التنميط، لغة الأصل والتأسيس، باعتبارها شرطًا وجوديًا لإمكانية الخطاب والمعنى. كما أن طابعها الشفهي والتشاركي يكشف أن الهوية لا تُنتج في عزلة، بل تتشكل داخل الجماعة ومن خلال التفاعل.
 
إلى جانب البعد اللغوي، يعيش الإنسان المغربي حالة من التوتر الفكري والديني والثقافي، نتيجة التعايش غير المفكر فيه بين مرجعيات تقليدية وحداثية، محلية ومستوردة. هذا التعايش غير النقدي يُنتج شكلًا من العنف الرمزي الهادئ، يتمثل في ضغط ضمني يدفع الفرد إلى الاختيار بين مكوناته بدل العمل على تنسيقها. ولا يظل هذا الاضطراب حبيس المجال الفكري، بل يمتد إلى التوازن النفسي والاجتماعي، ويؤثر في قدرة الفرد على التفاعل الإيجابي مع محيطه...
 
الإدماج، بهذا المعنى، لا يعني الإلغاء أو الذوبان، بل ترجمة الذات بين عناصرها المختلفة. إنه إدماج واعٍ يسمح للفرد بالحركة داخل المجتمع دون فقدان مركزه الداخلي. فالإنسان المتوازن هو القادر على احتواء تعدده، وتحويل تضارب الهويات إلى رصيد معرفي ووجودي، بدل أن يتحول إلى عبء داخلي معيق.
 
من هنا، لا يختزل الإدماج في كونه سياسة عمومية أو مفهوما أكاديميا مجردا، بل يطرح كمشروع إنساني وفلسفي يبدأ من الفرد ويمتد إلى المجتمع. فالرهان الحقيقي يكمن في إنتاج إنسان مغربي متوازن نفسيًا واجتماعيًا، قادر على التعايش مع ذاته ومع الآخرين، دون تشتت أو اغتراب داخلي...
 
الهوية المغربية، في هذا الأفق، لا تقدم كجواب نهائي بل كسؤال مفتوح باستمرار... سؤال يستدعي إعادة ترتيب الذات ومكوناتها، ويحول التعدد من حالة ارتباك إلى دينامية إبداعية داخلية. عندها فقط، يمكن للذات المغربية أن تنتقل من التشظي إلى التوازن، ومن تعدد غير مدار إلى إدماج واع، ومن حضور مرتبك إلى حضور فاعل في العالم، حضور يستمد قوته من الوعي والاختيار الحر، لا من الانتماء القسري أو السرديات الجاهزة.