الاثنين 22 ديسمبر 2025
فن وثقافة

 زكية لعروسي: حين يعقل الحجر وتتكلم الذاكرة بلسان العالمة نزهة بودهو.. من مغارة تافوغالت إلى خطاب المعرفة

 زكية لعروسي: حين يعقل الحجر وتتكلم الذاكرة بلسان العالمة نزهة بودهو.. من مغارة تافوغالت إلى خطاب المعرفة عالمة الآثار نزهة بودهو( يمينا) إلى جانب الطلبة
حين يعقل الحجر، لا يعود صامتا، ولا يظل مجرد كتلة خاملة في هوامش الجبال، بل يتحول إلى كائن عارف، يحتفظ بالذاكرة كما يحتفظ الجسد بندوبه. في الشرق المغربي، حيث تتراكم الأزمنة فوق بعضها بعضا، وحيث المغارات أقدم من اللغة، يبدأ الحجر في التفكير؛ لا بوصفه إستعارة شعرية فقط، بل كأرشيف حيّ يقرأ بالمِسطرين والمِجهر، وبالحدس العلمي الذي لا يخون الذاكرة.
 
في مغارة تافوغالت، لا يدخل الباحث بوصفه مكتشفا، بل بوصفه مُنصتا. الجدران هناك لا ترى فقط، بل تصغي. طبقاتها الأركيولوجية ليست ترابا متراكبا، بل فصولا من سيرة الإنسان الأول، مكتوبة بلغة الأدوات الحجرية، وبقايا العظام، وقواقع البحر التي قطعت مسافات شاسعة لتصير حُليا على جسد إنسان لم يكن بدائيا كما توهمناه، بل كائنا عاقلا، رمزيا، وجماليّ النزعة.
 
في هذا الرحم الحجري، أجرى الإنسان أولى تدخلاته الجراحية، شقّ الرأس لا ليهدمه بل ليشفيه، وداوى الجسد بنبات الإيفيدرا قبل أن يولد الطب كعلم مؤسسي بآلاف السنين. وهنا أيضًا دفن موتاه بطقوس دقيقة، لوّن عظامهم، وبتر أسنانهم وفق نظام رمزي يعكس وعيا مبكرا بالموت والعبور. لم يكن هذا الإنسان ساكن كهف هاربا من الطبيعة، بل شريكا لها، قارئا لإشاراتها، ومستثمرا لعناصرها.
 
غير أن هذا الحجر العاقل ظل طويلا في العتمة، لا لافتقاره إلى القيمة، بل لأن العيون التي مرّت فوقه لم تكن ترى. بقي الشرق المغربي خارج السرديات الكبرى، رغم أنه يحتضن بداياتها. إلى أن جاء زمن العلم، لا كسلطة، بل كإنصاف؛ زمن تستعاد فيه الذاكرة بالحفر الهادئ، وبالعمل المتراكم، وبأيد تدرك أن كل ضربة معول هي سؤال أخلاقي قبل أن تكون إجراء تقنيا.
 
حيث يكون الحجر أصدق أنباء من الذاكرة المكتوبة، يتحول التقرير الجامعي من وثيقة معرفية إلى نصّ شاهد، لا يكتفي بوصف الوقائع، بل يمنحها روحا ومعنى.
في هذا السياق، يبرز دور عالِمة الآثار وإبنة المهجر نزهة بودهو، لا بوصفها باحثة تنقّب في الأرض فحسب، بل بوصفها وسيطة بين الحجر والعقل، بين الماضي والحاضر. فهي لا تخرج اللقى الأثرية من صمتها للعرض، بل لإعادة إدماجها في خطاب الهوية والمعرفة. تقود الطلبة إلى المغارة لا ليشاهدوا الماضي، بل ليتعلموا كيف يصغون إليه، وكيف يتحول البحث العلمي إلى مسؤولية تجاه الذاكرة الجماعية.

 
من هذا المنطلق انطلقت الزيارة الميدانية التي أشرفت عليها الأستاذة الباحثة، بهدف أكاديمي واضح: ربط النظرية بالممارسة، وتكوين الطلبة ميدانيا في أركيولوجيا ما قبل التاريخ. غير أن ما حدث في مغارة تافوغالت تجاوز الدرس الجامعي؛ كان عبورا رمزيا من زمن التلقين إلى زمن الاكتشاف، ومن المعرفة المجردة إلى المعرفة الحيّة.
 
مغارة تافوغالت، الواقعة في قلب جبال بني يزناسن، على بعد 55 كيلومترا شمال غرب وجدة، ليست مجرد موقع أثري، بل ذاكرة جغرافية، جسد صخري يحمل آثار الإنسان الأول، ويشهد على أن الشرق المغربي لم يكن يوما هامشا للتاريخ، بل أحد مراكزه العميقة. في طبقاتها، الممتدة من العصر الحجري القديم الأوسط إلى الأعلى، لا نعثر فقط على لقى أثرية، بل على بدايات الوعي الإنساني: أول حُلي، أول طقس دفن، أول تدخل جراحي ناجح، وأول دواء نباتي. هنا عُثر على أقدم نيكروبول معروف، وعلى قواقع بحرية تعود إلى أكثر من 82 ألف سنة، حملها الإنسان من المتوسط ليصنع من الزينة لغة صامتة للهوية. هنا يتبدد وهم الإنسان البدائي، ويبرز إنسان يفكر، يرمز، يداوي، ويؤمن.
 
ورغم هذا الغنى، ظل الشرق المغربي طويلا في زمن النكرة: حاضرا في الطبقات الجيولوجية، غائبا في الخطاب العام. إلى أن بدأ هذا الصوت يستعاد، لا عبر الضجيج، بل عبر العلم؛ عبر بعثات بحثية، ومجهودات أساتذة وباحثين مغاربة، إختاروا أن يعيدوا كتابة تاريخ المكان من داخله، لا من خارجه.
 
من هنا، لم يكن تأسيس المتحف الإقليمي بوجدة حدثا إداريا أو ثقافيا معزولا، بل لحظة إكتمال سردي. فالمتحف، المحتضن داخل بناية مدرسة شاركو التاريخية، هو الامتداد المدني لمغارة تافوغالت. إذا كانت المغارة تمثل الجذر، فإن المتحف هو التاج. وإذا كان الاكتشاف يتم في العتمة، فإن العرض يتم في الضوء.
 
في قاعات هذا المتحف، تتحول الأدوات الحجرية إلى علامات، والنقوش الصخرية إلى نصوص، واللقى الأثرية إلى أسئلة مفتوحة. المتحف لا يجمّد الماضي، بل يحرّكه في الوعي الجماعي، ويعيد وصل الطلبة والتلاميذ والمجتمع بإرثهم العميق. إنه إعلان صريح بأن وجدة ليست مدينة حدود فقط، بل مدينة ذاكرة، وعاصمة ثقافية للجهة الشرقية بامتياز.
 
في قلب هذا التحول، تقف نزهة بودهو بوصفها عالِمة إامرأة وذاكرة مهاجرة عادت لتقرأ الحجر بلغته. لا تقود الطلبة إلى المواقع الأثرية لتعرض عليهم الماضي كشيء منتهٍ، بل لتجعله حاضرا، حيّا ومسؤولية مشتركة. تحوّل الزيارة الميدانية إلى فعل بيداغوجي عميق، وإلى تمرين في الوعي الإيكولوجي والثقافي، حيث يُقرأ المكان ككائن حيّ لا كمجرد فضاء.
بفضل هذا النهج، لم يعد التقرير الجامعي مجرد رصد للوقائع، بل صار مادة سردية تكتب فيها المعرفة بلغة دقيقة وروح حية، ويستعاد فيها الشرق المغربي كفاعل في تاريخ الإنسانية، لا كخلفية جغرافية صامتة.

 
هكذا يلتقي التقرير الأكاديمي بالمقال الأدبي، لا في تناقض، بل في تكامل: الأول يمنح الدقة، والثاني يمنح الروح. وبينهما، تقف مغارة تافوغالت والمتحف الإقليمي بوجدة شاهدين على أن الشرق المغربي خرج من الصمت، وإستعاد صوته بالمعرفة لا بالصراخ.
 
حين تنتقل الذاكرة من المغارة إلى المتحف، لا تفقد روحها، بل تغيّر خطابها. فالمتحف ليس نهاية الرحلة، بل إستمرارها في فضاء آخر؛ ضوء لا يلغي العتمة، بل يفسرها. هناك يعترف الحجر، رسميا، بأنه كان يفكر، وأن ما حمله في صمته آلاف السنين لم يكن فوضى، بل معنى.
كلما عقل الحجر، عقل المكان، وعقل الإنسان ذاته. ويخرج الشرق المغربي من زمن النكرة إلى زمن التعريف، لا إدعاء بل استحقاقا.
فهنيئا لحجر نطق، ولعلم أنصت، ولذاكرة وجدت من يقرأها دون أن يزوّرها.
هذا الشرق، الذي همّش طويلا يرفع اليوم عنقه بهدوء، ويقول: هنا بدأت الحكاية.
وهنيئا لمنطقة إكتشفت أن فخرها ليس مستعارا، بل محفور في صخرها، مصون بعلم علمائها وعالماتها من امثال الباحثة نزهة بودهو، ومكتوب في ذاكرة الإنسان الأول.