ليست مكناس مدينة عادية في تاريخ المغرب، ولا تفصيلاً منسيًا في جغرافيته هي الحاضرة الإسماعيلية، عاصمة الدولة في عهد المولى إسماعيل، وواحدة من المدن التي صاغت معنى الدولة قبل أن تصير الدولة جهازًا إداريًا ومع ذلك، تعيش مكناس اليوم مفارقة قاسية مدينة بثقل رمزي وتاريخي استثنائي، لكنها بحضور تنموي باهت، يكاد لا يليق بماضيها ولا بإمكاناتها.
مكناس التي تسكن الذاكرة قبل الخرائط، والتي كلما ابتعدتَ عنها اقتربت منك أكثر، تختزل في معالمها روح المغرب العميق من صهريج السواني وهري السواني، إلى ساحة الهديم وباب منصور، مرورًا بقبة السفراء وضريح المولى إسماعيل وسجن قارة ، وانتهاءً بالمدرسة البوعنانية والمتحف الجامعي مدينة ذات كثافة صوفية نادرة، حيث يتقاطع العمران مع الروح، وحيث للذاكرة أولياء يحرسون المعنى قبل الحجر. مكة و الناس البعد الديني في أبهى حلله الجامع الكبير، مسجد خناتة بنت بكار ومسجد السلطان سيدي محمد بن عبد الله وتجد أناس تجمعت فيهم خصال العرب من أنافة و كرم وحب ٱجتماعي.
وبالقرب منها، تقف وليلي شاهدة على عمق حضاري جعل من مكناس قطبًا سياحيًا وثقافيًا وفلاحيًا بامتياز، تؤكده سنويًا احتضانها للمعرض الدولي للفلاحة غير أن السؤال المؤلم يفرض نفسه بإلحاح كيف لمدينة بهذه المؤهلات أن تظل خارج دينامية التنمية الاقتصادية والسياحية الحقيقية؟
الجواب ليس في نقص الموارد، ولا في غياب اليد العاملة، ولا في ضعف الموقع الجغرافي مكناس تتوفر على طاقات بشرية مؤهلة، لكنها تُستنزف بالهجرة الداخلية نحو مدن أخرى أكثر قدرة على خلق الفرص إنها مدينة تُصدّر أبناءها بدل أن تستثمر فيهم، وتُراكم الخسارات بدل أن تحوّل الرأسمال الرمزي إلى قيمة اقتصادية.
الاحتجاج هنا ليس انفعاليًا، بل عقلاني فأين هي الرؤية الاستراتيجية لتطوير المدينة؟ أين هي السياسات العمومية الترابية القادرة على إدماج مكناس في الدورة الاقتصادية الوطنية؟ أين السلطات الولائية؟ وأين المسؤولية الجماعية في الدفاع عن حق المدينة في بنية نقل آمنة، ومحطة طرقية وسككية حديثة، ومناطق صناعية حرة، وأقطاب لتسريع الأنشطة الاقتصادية؟.
ما يحدث في مكناس ليس مجرد تعثر عابر، بل نمط متكرر من التدبير المرتبك مشاريع تنطلق ثم تتوقف، تتوقف ثم تُستأنف بوتيرة بطيئة،إلى حدّ أن بعضها تحوّل إلى أطلال إسمنتية مغلقة في وجه المواطنين حتى المشروع الملكي لإعادة الاعتبار للمدينة العتيقة، بكل ما يحمله من رمزية تاريخية، لم يسلم من منطق التعطيل والتجزئة، وكأن الذاكرة نفسها صارت ضحية سوء الحكامة.
الأخطر من التعثر هو التطبيع مع التعثر أن يصبح الفشل العمراني والاقتصادي أمرًا عاديًا، وأن تُدار المدينة بمنطق تدبير اليومي لا بمنطق بناء المستقبل فغياب النخب السياسية المحلية القادرة على إنتاج رؤية شاملة، بعيدة المدى، جعل من الشأن المحلي مجالًا لتصفية الحسابات وبناء الشبكات، لا رافعة للتنمية.
مكناس لا تطلب امتيازًا، بل حقًا حقها في تنمية عادلة، وفي إدماج اقتصادي حقيقي، وفي مسؤولين يعتبرون المدينة أمانة لا غنيمة فالمدن لا تموت حين تفقد مواردها، بل حين تفقد من يدافع عنها.
وحدها الإرادة السياسية الصادقة، والحكامة الترابية الرشيدة، كفيلتان بإخراج مكناس من خانة “المدينة المؤجلة” إلى فضاء المدينة الفاعلة وإلى أن يحدث ذلك، سيظل السؤال معلّقًا إلى متى تبقى مكناس خارج الزمن التنموي للمغرب؟.
حميدي عبد الرفيع/ باحث في قضايا الشباب والسياسات العمومية

