Monday 15 December 2025
كتاب الرأي

منير لكماني: على هامش فيضانات آسفي.. رسوب مخطط في إدارة الخطر

منير لكماني: على هامش فيضانات آسفي.. رسوب مخطط في إدارة الخطر منير لكماني
الخطر المؤجل
لا تسقط المدن فجأة، ولا تنفجر الكوارث من العدم. كل مأساة يسبقها صمت طويل، تتراكم فيه الإشارات، وتتكرر فيه التحذيرات، ثم يختار الجميع العبور فوقها كأنها لا تعني شيئا. حين يقع الإنهيار، يبدو الحدث صاعقا، لكنه في حقيقته نتيجة طبيعية لمسار من الإهمال والتردد وغياب الفعل في الوقت المناسب.
 
مفهوم الإستباق الغائب
الإستباق في تدبير المخاطر ليس تنبؤا بالغيب، بل ممارسة عقلانية قائمة على تحليل المعطيات المتاحة واتخاذ قرارات وقائية قبل تحول الخطر إلى كارثة. في دراسات التخطيط الحضري وإدارة الأزمات، يعد الاستباق ركنا مركزيا في حماية الأرواح والممتلكات. المقارنة بين مدن تعتمد هذا النهج وأخرى تهمله تكشف بوضوح أن حجم الخسائر لا يرتبط بقوة الظاهرة الطبيعية وحدها، بل بدرجة الجاهزية المؤسسية. هذه الخلاصة تحظى بدرجة يقين مرتفعة لتقاطعها في مصادر بحثية متعددة ومستقلة.
 
المدينة كمنظومة هشة
المدينة ليست تجمعا إسمنتيا فقط، بل شبكة مترابطة من البنى والخدمات والقرارات. أي خلل في أحد عناصرها ينعكس على البقية. إهمال قنوات التصريف، التغاضي عن البنايات المهددة، وعدم تحيين خرائط المخاطر، كلها مؤشرات على ضعف الرؤية الشاملة. عند مراجعة تقارير تقنية متخصصة، يظهر أن الأعطال غالبا معروفة مسبقا، لكنها تؤجل بدافع الكلفة أو التعقيد الإداري، فيتحول التأجيل إلى خطر متراكم.
 
التحذير بلا قرار
تنتج مراكز الرصد والإنذار المبكر معطيات دقيقة حول الأخطار المحتملة، لكن فعاليتها تتوقف عند لحظة التفعيل. التحذير الذي لا يترجم إلى إجراءات عملية يفقد معناه، بل قد يتحول إلى عنصر تضليل يخلق شعورا زائفا بالتحكم. إغلاق مرافق معرضة للخطر، تعليق أنشطة في مناطق هشة، وتعبئة فرق التدخل، خطوات ثبتت فعاليتها في تجارب موثقة. تجاهل هذه الخطوات يجعل المعلومة عبئا أخلاقيا قبل أن تكون تقصيرا إداريا.
 
فجوة المسؤولية
تتسم إدارة المخاطر الحضرية بتعدد المتدخلين، ما يخلق في كثير من الأحيان فجوة بين من يمتلك القرار ومن يتحمل النتائج. عند تحليل الخطاب الرسمي بعد الكوارث، يلاحظ ميل واضح إلى تمييع المسؤولية وتفكيكها إلى أجزاء صغيرة. بعد التحقق من معطيات قانونية وتنظيمية، يتبين أن المشكلة ليست غياب النصوص، بل ضعف تفعيلها وانعدام التنسيق. هذا الإستنتاج ذو يقين متوسط، نظرا لغياب معطيات كاملة حول بعض مسارات القرار.
 
ثقافة رد الفعل
يسود نمط إداري واجتماعي يركز على التدخل بعد وقوع الضرر، لا على منعه. يتم التعامل مع الكارثة كحدث استثنائي، لا كعرض لخلل متكرر. هذا المنظور ينتج سياسات قصيرة النفس، تكتفي بالترميم بدل المعالجة الجذرية. الإستمرار في هذا النهج يعني القبول الضمني بتكرار الخسائر، وكأنها ثمن لا مفر منه للحياة الحضرية.
 
نحو تحول ضروري
الانتقال إلى ثقافة الإستباق يتطلب تغييرا في سلم الأولويات، بحيث تصبح سلامة الإنسان القيمة العليا التي تقاس بها السياسات والقرارات. هذا التحول لا يتحقق بالشعارات، بل بتخطيط مبني على المعرفة، ومحاسبة واضحة، وشفافية في تدبير الخطر. التجارب الناجحة تؤكد أن الاستثمار في الوقاية أقل كلفة إنسانيا وماديا من معالجة الكوارث بعد وقوعها.
 
من الحداد إلى اليقظة
جوهر الظاهرة أن الكارثة ليست قدرا مفاجئا، بل نتيجة لمسار يمكن تعديله. السؤال الحقيقي ليس متى سيقع الخطر، بل هل نمتلك الإرادة لنواجهه قبل أن يتحول إلى فاجعة. هل يمكن للمدن أن تتعلم من أخطائها، أم ستظل تنتظر الصدمة التالية لتعيد طرح الأسئلة ذاتها؟ وهل يصبح الاستباق يوما ممارسة راسخة، لا خيارا مؤجلا؟