Sunday 14 December 2025
كتاب الرأي

أوسي موح الحسن : السياسة ..  في الحاجة إلى المعنى في زمن التفاهة

أوسي موح الحسن : السياسة ..  في الحاجة إلى المعنى في زمن التفاهة أوسي موح الحسن
لم تعد التفاهة في الحقل السياسي المغربي مجرد انزلاق لغوي أو ضعف تواصلي لدى بعض الفاعلين، بل أصبحت نمطًا اشتغاليًا يُعاد إنتاجه بشكل شبه منتظم داخل الفضاء العمومي. الأخطر في هذا التحول ليس رداءة الخطاب في حد ذاتها، بل كونها تُقدَّم باعتبارها سياسة، وتُسوَّق بوصفها قربًا من المواطن، بينما هي في الواقع تفريغ ممنهج للفعل السياسي من محتواه المعرفي والأخلاقي.
السياسة، في معناها الفلسفي، تفترض القدرة على تحويل الواقع الاجتماعي إلى موضوع للنقاش العقلاني، وعلى بلورة اختيارات واضحة تُعرض للنقد والمساءلة. غير أن الممارسة السائدة تُظهر انتقالًا واضحًا من سياسة البرامج إلى سياسة الانطباعات. في الحملات الانتخابية، على سبيل المثال، نادرًا ما يشهد النقاش العمومي تفكيكًا حقيقيًا للسياسات العمومية أو تقييمًا للأثر الاجتماعي للقرارات السابقة. بدل ذلك، يهيمن خطاب شعاراتي فضفاض، يُكثر من الوعود العامة دون تحديد الوسائل، ويعتمد على سرديات شخصية، أو على استعراض “القرب” من المواطن عبر صور وأساليب تواصلية لا تحمل أي مضمون سياسي فعلي.
هذا الاختزال يتجلى بوضوح في النقاشات البرلمانية التي تتحول، في كثير من الحالات، إلى مشاهد خطابية موجهة للاستهلاك الإعلامي. أسئلة آنية تُطرح دون متابعة، سجالات لفظية تُستثمر للتصفيق أو للانتشار الرقمي، بينما تغيب النقاشات العميقة حول السياسات القطاعية، أو تقييم البرامج الحكومية، أو محاسبة الاختيارات الاقتصادية. البرلمان، هنا، لا يُعطَّل، لكنه يُفرَّغ من وظيفته التداولية، ويُعاد تعريفه كفضاء عرض لا كفضاء تفكير.
في الفضاء الرقمي، تتخذ التفاهة السياسية شكلًا أكثر فجاجة. تصريحات مبتورة، مقاطع قصيرة خارج سياقها، ومواجهات كلامية تُقدَّم بوصفها “نقاشًا سياسيًا”. سياسيون يراكمون الحضور عبر الإثارة لا عبر الفكرة، ويُقاس وزنهم بقدرتهم على إثارة الجدل لا بقدرتهم على صياغة بدائل. وهنا يتحقق منطق خطير: السياسة تُكافَأ حين تكون سطحية، وتُعاقَب حين تكون معقدة. المواطن لا يُمنع من الاهتمام، بل يُستنزف في متابعة لا تُفضي إلى فهم.
من منظور سوسيولوجي، لا يمكن فصل هذه الظاهرة عن أزمة الثقة المتراكمة. فحين يغيب المعنى، يصبح العزوف موقفًا عقلانيًا. التفاهة السياسية لا تُقصي المواطن قسرًا، بل تدفعه إلى الانسحاب الهادئ، لأنه لا يرى في الخطاب المعروض ما يستحق الاستثمار الذهني أو العاطفي. وهكذا، تتحول المشاركة السياسية إلى طقس انتخابي محدود، لا إلى انخراط واعٍ في الشأن العام.
الأخطر أن هذا النسق لا يعمل ضد السلطة السياسية فقط، بل ضد السياسة ذاتها. فالتفاهة تُفرغ الصراع من مضمونه، وتحوّل الاختلاف إلى مشاحنات شخصية، وتُعيد إنتاج نفس النخب داخل نفس الدائرة الخطابية. لا أحد يُحاسَب على ضعف الفكرة، لأن الفكرة أصلًا لم تعد شرطًا. وبهذا، تُستبدل السياسة بوهم السياسة، كما وصف بودريار: تمثيل بلا أصل، وصورة بلا واقع.
في هذا السياق، تصبح مفاهيم مثل “الإصلاح” و“النموذج التنموي” و“ربط المسؤولية بالمحاسبة” جزءًا من قاموس متداول، لا من برنامج عمل. تُستعمل هذه المفاهيم بكثافة، لكنها لا تُحمَّل بمحتوى قابل للقياس أو للنقد. وهنا تتجلى تفاهة المعنى في أقصى صورها: اللغة السياسية تبدو غنية، لكنها معطّلة وظيفيًا.
إن التفاهة السياسية، بهذا المعنى، ليست فشلًا فرديًا، بل نتيجة نسق يكافئ السلامة الخطابية، ويعاقب الجرأة الفكرية. نسق لا يمنع النقاش، لكنه لا يسمح له بأن يغيّر شيئًا. وهذا ما يجعلها أداة ضبط ناعمة بالمعنى الفوكوي: ضبط عبر الإلهاء، لا عبر المنع؛ عبر الإشباع الرمزي، لا عبر القمع.
إن استعادة السياسة لمعناها في المغرب تمرّ عبر كسر هذا النسق، لا عبر تحسين لغته فقط. تمرّ عبر إعادة الاعتبار للبرنامج، وللتفكير طويل النفس، ولمساءلة حقيقية لا تُختزل في لحظة إعلامية. ففي سياق تُدار فيه السياسة بالضجيج، يصبح العمق فعلًا مزعجًا، ويغدو الدفاع عن المعنى موقفًا سياسيًا في حد ذاته. كل ذلك في انتظار  معنى يعيد للسياسة شرفها.