منذ اللحظة التي يفتح فيها الطفل حسابه الأول على وسائل التواصل الاجتماعي يبدأ معه رحلة محفوفة بالمخاطر الخفية رحلة لا يعرفها كثيرون رحلة تتقاطع فيها البراءة الرقمية مع عالم سريع الإيقاع ومليء بالمغريات التي قد تتحول إلى تهديد نفسي وسلوكي في هذا الفضاء المفتوح، يصبح الطفل أمام شاشات مصممة لإبقاء انتباهه لأطول فترة ممكنة وخوارزميات تحاكي ميوله ورغباته لتوجيه سلوكه دون أن يشعر غياب الإشراف الحقيقي والحماية القانونية يجعل هذه المرحلة من حياته معرضة بشكل كبير للإدمان الرقمي، الانعزال الاجتماعي، وضعف التركيز والتحصيل الدراسي.
أوروبا قررت مواجهة هذا الواقع بصرامة البرلمان الأوروبي اقترح حظر استخدام الشبكات الاجتماعية لمن هم دون 16 عامًا، مع السماح لمن تتراوح أعمارهم بين 13 و16 عامًا بالاستخدام بموافقة الوالدين الهدف ليس مجرد تحديد سن، بل توفير إطار حماية شامل، يضع الطفل في قلب تجربة رقمية آمنة، ويحد من المخاطر النفسية والجسدية، ويمنع تحول الشاشة من وسيلة تعليم وترفيه إلى سجن رقمي مبكر.
التجربة الأوروبية لم تقتصر على الحد العمري بل أكدت على الدور الحاسم للأسرة كشريك تربوي مباشر فالحماية الرقمية للأطفال ليست رفاهية، بل ضرورة تربوية حقيقية تفرض على المجتمع أن يفكر في كيفية تكوين الطفل رقمياً، وتعليمه المهارات الضرورية للتفاعل مع التكنولوجيا بشكل واعٍ ومسؤول إنها دعوة لإعادة النظر في العلاقة بين الطفل والشاشة، بحيث تصبح الرقمنة أداة للتعلم والإبداع لا مصدر تهديد للنمو النفسي والاجتماعي.
المغرب فضاء مفتوح بلا رقابة ومسؤولية غائبة
في المغرب الواقع الرقمي للأطفال والمراهقين مختلف تمامًا عن التجربة الأوروبية فالشباب الصغير يتجول بحرية شبه مطلقة في عالم الشبكات الاجتماعية، دون حد أدنى للعمر دون إشراف رسمي ودون أي رقابة على المحتوى هذه الحرية المطلقة تجعل الطفل عرضة لمحتوى ضار، ولإدمان رقمي مبكر، ويضع الأسرة والمدرسة أمام تحديات ضخمة لتوجيهه في فضاء معقد وغير منظم.
في المقابل تحاول الدولة، ممثلة في وزارة الشباب، أن تظهر نشاطًا عبر تنظيم مناظرات وطنية في فنادق مصنفة يشارك فيها عدد كبير من مسؤولي الجمعيات لكن هذه الفعاليات غالبًا مجرد واجهات شكلية المخرجات لا ترقى إلى مستوى الاستثمار الكبير، ولا تعكس أي التزام فعلي بحماية الأطفال أو تطوير دور مستدام للمجتمع المدني في هذا المجال الحيوي.
المجتمع المدني، رغم جهوده ومبادراته، يجد نفسه مستبعدًا من المعادلة الحقيقية، بينما تتغاضى الدولة عن مسؤوليتها المباشرة النتيجة المترتبة على هذا الغياب التنظيمي واضحة تعرض الأطفال لمحتوى ضار، إدمان متزايد على الشاشات، تراجع في التركيز والتحصيل الدراسي، وتدهور الصحة النفسية، كل ذلك دون مساءلة فعلية للمنصات الرقمية، أو سياسات واضحة للتوعية والوقاية.
هذه الفجوة بين الشكل والمضمون تكشف هشاشة المنظومة الوطنية في حماية الأطفال في الفضاء الرقمي، وتطرح تساؤلات جوهرية حول جدوى المبادرات الرمزية مقابل مسؤولية الدولة والمجتمع المدني في مواجهة المخاطر الرقمية.
الدرس النقدي والتربوي
التجربة الأوروبية تقدم درسًا صارخًا للمغرب الرقمنة بلا قواعد ولا إشراف، خصوصًا على الأطفال، ليست مجرد تهديد نفسي أو اجتماعي، بل أزمة مستقبلية تهدد الصحة النفسية، التركيز، والتحصيل الدراسي للأجيال الصاعدة حماية الأطفال في الفضاء الرقمي ليست خيارًا يمكن تأجيله بل مسؤولية تربوية ومجتمعية ملحة، تتطلب تضافر جهود الدولة والأسرة والمجتمع المدني، مع وضع سياسات واضحة وملموسة قابلة للتطبيق بدل الاكتفاء بالمظاهر الشكلية مناسبات، مؤتمرات، مناظرات في فنادق مصنفة، أو بيانات صحفية لا تغيّر الواقع الأمر يتجاوز التنظيم أو التشريع الجزئي، فهو يتعلق بضمان مستقبل رقمي آمن للأطفال، يوازن بين حرية الابتكار والاستخدام الرقمي من جهة، والحماية من المخاطر النفسية والاجتماعية من جهة أخرى.
السؤال المحوري
هل ستظل الجهود الرسمية في المغرب مجرد فنادق مصنفة ومناظرات شكلية، تستهلك الموارد بلا نتائج فعلية، أم ستتحمل الدولة والمجتمع المدني مسؤولياتهما الحقيقية في حماية الأطفال وتنشئتهم رقميًا أوروبا اختارت الطريق الواضح حماية الأطفال أولوية لا مساومة عليها والمغرب أمام فرصة حقيقية لإعادة النظر قبل أن تتحول الفجوة بين الشكل والمضمون إلى أزمة كبرى، تهدد مستقبل الأجيال الصاعدة في عالم رقمي سريع الإيقاع ومعقد المخاطر.