نعيش اليوم حتما على إيقاع أزمة اجتماعية واقتصادية متتالية، تتداخل فيها أزمة العيش الكريم مع انسداد الأفق السياسي، ويشكل فيها الغضب الشعبي وقود حطب للخطاب الشعبوي، في ظل الانتقادات الموجهة لحكومة أخنوش.
العاصفة الوجدانية، تغذيها رياح بطالة متزايدة، وتآكل ثقة عميق في الفاعلين السياسيين...
وهذا المناخ الملتبس، ينعش الخطاب الشعبوي من جديد، متقمصًا دور “المنقذ”، مستثمرا ألم الناس كوقود للعودة إلى الواجهة. وهنا يبرز اسم عبد الإله بنكيران، لا باعتباره مجرد شخصية سياسية سابقة، بل كنموذج لحكم جمع بين دغدغة الوجدان الشعبي وقسوة القرار.
فهل ذاكرتنا ضعيفة حتى ننسى كم قسا بنكيران على الطبقة المتوسطة وباع الطبقات الهشة الوهم، وعفا عن تجار الفساد والإفلاس؟ لا أظن أن المغاربة... سينسون محنتهم مع بنكيران.
فحين صعد بنكيران إلى رئاسة الحكومة، بدا الأمر لكثيرين لحظة أمل...زعيم يتحدث بلغة الناس، يرفع شعارات الهوية والعدالة الاجتماعية، والدين والقيم...والفقراء والأمهات والأرامل والمعوزيز... وقدم مرجعيته الإسلاموية كعنوان لمرحلة جديدة من الإصلاح في ظل رياح الربيع العربي غير أن المسافة بين الوعود والواقع سرعان ما اتسعت، لتكشف عن مفارقة حادّة: خطاب عاطفي يغازل الفقراء، مقابل سياسات اقتصادية واجتماعية حملت كلفتها نفس الفئات التي ادعى الدفاع عنها. هكذا تحول “المنقذ” في الوعي الشعبي إلى مهندس حزمة من القرارات المؤلمة التي غيرت جوهر العقد الاجتماعي في المغرب.
فهل ننسى،
ففي قلب هذه السياسات اللاشعبة والقاسية عمد إلى تفكيك صندوق المقاصة ورفع الدعم تدريجيا عن عدد من المواد الأساسية، القرار قم يومها بوصفه إصلاحا ضروريا لإنقاذ المالية العمومية وترشيد النفقات، لكنه في المعيش اليومي للمواطن كان يعني غلاء متصاعدا في كلفة النقل، والمواد الغذائية، وكل السلع المرتبطة بالطاقة. بينما بقيت الأجور على حالها تقريبا، فانكمش هامش العيش وتقلصت قدرة الطبقة الوسطى والشرائح الفقيرة على تلبية أبسط الحاجات.
هكذا تحول “إصلاح الدعم” من حق في التضامن الوطني إلى كلفة إضافية يدفعها المواطن عند كل ملء خزان سيارته أو اقتناء حاجياته الأساسية.
ولم تقف القرارات القاسية عند حدود الأسعار، بل امتدت إلى المستقبل الوظيفي للموظفين والطبقة الوسطى عبر إصلاح التقاعد. فقد جرى رفع سن الإحالة على المعاش من 60 إلى 63 سنة، مع زيادة الاقتطاعات وخفض معامل احتساب المعاش. معنى ذلك ببساطة أن الموظف سيعمل أكثر ليتقاضى في النهاية أقل، وأن كلفة إنقاذ صناديق التقاعد لم توزع بالتساوي بين الدولة ومراكز النفوذ والفئات الضعيفة، بل رُحِّلت أساسا نحو جيوب الأجراء. هذا الإصلاح الذي صُوِّر بدوره كخيار “لا بديل عنه” فجّر احتجاجات نقابية واسعة، ورسّخ شعورًا عميقًا بالغبن لدى فئات واسعة من موظفي الدولة.
بالتوازي مع ذلك، اختارت حكومة بنكيران شرعن ودشن ما لم تجرؤ الحكومات السابقة على فعله... التوظيف بالتعاقد في قطاعات حيوية، وفي مقدمتها التعليم، ما خلق جيلا جديدا من الأساتذة في وضعية هشة داخل قطاع كان يمثل تاريخيا رمزا للاستقرار النسبي. الأساتذة المتعاقدون وجدوا أنفسهم أمام مستقبل مهني ملتبس، حقوق غير مكتملة، وأجر مرتبط دائما بهاجس “القابلية لإنهاء العقد”. هذا التوجه تزامن مع قرارات مست الأساتذة المتدربين، من تقليص المنح إلى فصل التكوين عن التوظيف...
وحين اندلعت احتجاجات وطنية واسعة، صورها في البداية كـ“تصلب فئوي”، قبل أن تكشف عن عمق الأزمة الاجتماعية في قلب المنظومة التعليمية.
الوجه الأكثر صرامة في تجربة بنكيران كان في التعامل مع الحق في الإضراب والاحتجاج. فبدل حماية الإضراب كأداة تفاوض اجتماعي مشروعة، تم تكريس قاعدة “لا أجر مقابل الإضراب” عبر الاقتطاع من رواتب المضربين في عدد من القطاعات. هذا السلاح المالي فهم في الأوساط النقابية باعتباره عقابا جماعيا ورسالة واضحة مفادها أن كلفة الاحتجاج لن تكون فقط مهنية بل معيشية أيضًا. بالتوازي، دُفع في اتجاه تنظيم الحق في الإضراب بنصوص قانونية مثيرة للجدل، رأت فيها النقابات محاولة لتضييق هامش الفعل النقابي أكثر من كونها تنظيمًا متوازنًا لهذا الحق.
كل تلك القرارات جاءت مترافقة مع آلة خطابية ساحرة. بنكيران ظل يظهر أمام الرأي العام كرجل بسيط، قريب من الناس، يستشهد بحياتهم اليومية في خرجاته الإعلامية والبرلمانية، ويوظف لغة دينية وشعبية في آن واحد ليصوغ صورة “الرجل النزيه الذي أُجبر على اتخاذ قرارات مؤلمة لإنقاذ البلاد”. لكن المواطن الذي كان يسمع هذا الخطاب هو نفسه الذي يواجه في نهاية الشهر فواتير أثقل، وثمنا أعلى للمحروقات، ومستقبلا وظيفيا أقل ضمانا، وحقوقا نقابية مهددة بالاقتطاع أو التقييد. هذا التناقض الصارخ بين لغة القرب وسياسات القسوة هو ما ترك جرحًا عميقًا في الذاكرة الاجتماعية.
اليوم، ومع اشتداد الأزمة الاقتصادية وعودة الغلاء والبطالة إلى واجهة المشهد، وخيبات الحكومة الحالية يعود الخطاب الشعبوي لابنكيران ليطرق الأبواب من جديد. ممفترضا بقوة العودة المحتملة ، أو لأي نموذج مشابه، كحل سحري لأزمة معقدة بُني جزء كبير منها على نفس “الإصلاحات” التي جرى تمريرها في عهده. الخطر هنا ليس في الاسم وحده، بل في النموذج: نموذج يجعل الغضب الشعبي مادة انتخابية، ويحول الألم الاجتماعي إلى رصيد سياسي، ثم يعيد توزيع كلفة “الإنقاذ” على الأضعف، لا على الأقوى.
المطلوب اليوم ليس فقط تذكر القرارات القاسية التي طبقت في ذلك العهد، بل فهم المنطق الذي يحكمها حتى لا يعاد إنتاجه بوجوه جديدة. فالشعبوية لا تحاسب نفسها، بل تعيش على ضعف الذاكرة الجماعية. وكلما نسي الألم السابق، عادت الوعود نفسها بعبارات أكثر بريقا. مواجهة هذا المسار لا تكون بالانجرار إلى حروب الأسماء، بل ببناء وعيٍ نقدي يرى في كل خطاب عاطفي يدغدغ المشاعر، ويعزف على وتر الدين، سؤالا مشروعًا: من سيدفع ثمن هذه الشعارات عندما تتحول إلى قرارات؟
المغرب اليوم في حاجة إلى عقد سياسي جديد، لا يعد بالمعجزات بل بالصدق...يعترف بعمق الأزمة وبأن الإصلاح يحتاج وقتا وتضحيات، ومحاربة للفساد بشجاعة وصدق، وبرؤية تبدأ بمحاسبة جيوب الامتياز والريع، لا من جيوب الموظفين البسطاء والفئات الهشة. عقد يضمن توزيعا عادلا للأعباء، ويعيد الاعتبار للحوار الاجتماعي بدل معاقبة المحتجين، ويحيي الثقة في السياسة والمؤسسات كمسار للتغيير لا كآلة لإعادة إنتاج الخيبة.
عودة بنكيران أو أي نسخة من هذا النموذج ليست قدرا محتومًا، بل خيار تصنعه صناديق الاقتراع ودرجة وعي المجتمع. وإذا كان الماضي قد كشف ثمن الشعبوية حين تتحول إلى سلطة، فإن المستقبل مرهون بقدرة المغاربة على التعلم من تلك التجربة، لا على إعادة تدويرها في لحظة يأس جديدة.
وهذا المناخ الملتبس، ينعش الخطاب الشعبوي من جديد، متقمصًا دور “المنقذ”، مستثمرا ألم الناس كوقود للعودة إلى الواجهة. وهنا يبرز اسم عبد الإله بنكيران، لا باعتباره مجرد شخصية سياسية سابقة، بل كنموذج لحكم جمع بين دغدغة الوجدان الشعبي وقسوة القرار.
فهل ذاكرتنا ضعيفة حتى ننسى كم قسا بنكيران على الطبقة المتوسطة وباع الطبقات الهشة الوهم، وعفا عن تجار الفساد والإفلاس؟ لا أظن أن المغاربة... سينسون محنتهم مع بنكيران.
فحين صعد بنكيران إلى رئاسة الحكومة، بدا الأمر لكثيرين لحظة أمل...زعيم يتحدث بلغة الناس، يرفع شعارات الهوية والعدالة الاجتماعية، والدين والقيم...والفقراء والأمهات والأرامل والمعوزيز... وقدم مرجعيته الإسلاموية كعنوان لمرحلة جديدة من الإصلاح في ظل رياح الربيع العربي غير أن المسافة بين الوعود والواقع سرعان ما اتسعت، لتكشف عن مفارقة حادّة: خطاب عاطفي يغازل الفقراء، مقابل سياسات اقتصادية واجتماعية حملت كلفتها نفس الفئات التي ادعى الدفاع عنها. هكذا تحول “المنقذ” في الوعي الشعبي إلى مهندس حزمة من القرارات المؤلمة التي غيرت جوهر العقد الاجتماعي في المغرب.
فهل ننسى،
ففي قلب هذه السياسات اللاشعبة والقاسية عمد إلى تفكيك صندوق المقاصة ورفع الدعم تدريجيا عن عدد من المواد الأساسية، القرار قم يومها بوصفه إصلاحا ضروريا لإنقاذ المالية العمومية وترشيد النفقات، لكنه في المعيش اليومي للمواطن كان يعني غلاء متصاعدا في كلفة النقل، والمواد الغذائية، وكل السلع المرتبطة بالطاقة. بينما بقيت الأجور على حالها تقريبا، فانكمش هامش العيش وتقلصت قدرة الطبقة الوسطى والشرائح الفقيرة على تلبية أبسط الحاجات.
هكذا تحول “إصلاح الدعم” من حق في التضامن الوطني إلى كلفة إضافية يدفعها المواطن عند كل ملء خزان سيارته أو اقتناء حاجياته الأساسية.
ولم تقف القرارات القاسية عند حدود الأسعار، بل امتدت إلى المستقبل الوظيفي للموظفين والطبقة الوسطى عبر إصلاح التقاعد. فقد جرى رفع سن الإحالة على المعاش من 60 إلى 63 سنة، مع زيادة الاقتطاعات وخفض معامل احتساب المعاش. معنى ذلك ببساطة أن الموظف سيعمل أكثر ليتقاضى في النهاية أقل، وأن كلفة إنقاذ صناديق التقاعد لم توزع بالتساوي بين الدولة ومراكز النفوذ والفئات الضعيفة، بل رُحِّلت أساسا نحو جيوب الأجراء. هذا الإصلاح الذي صُوِّر بدوره كخيار “لا بديل عنه” فجّر احتجاجات نقابية واسعة، ورسّخ شعورًا عميقًا بالغبن لدى فئات واسعة من موظفي الدولة.
بالتوازي مع ذلك، اختارت حكومة بنكيران شرعن ودشن ما لم تجرؤ الحكومات السابقة على فعله... التوظيف بالتعاقد في قطاعات حيوية، وفي مقدمتها التعليم، ما خلق جيلا جديدا من الأساتذة في وضعية هشة داخل قطاع كان يمثل تاريخيا رمزا للاستقرار النسبي. الأساتذة المتعاقدون وجدوا أنفسهم أمام مستقبل مهني ملتبس، حقوق غير مكتملة، وأجر مرتبط دائما بهاجس “القابلية لإنهاء العقد”. هذا التوجه تزامن مع قرارات مست الأساتذة المتدربين، من تقليص المنح إلى فصل التكوين عن التوظيف...
وحين اندلعت احتجاجات وطنية واسعة، صورها في البداية كـ“تصلب فئوي”، قبل أن تكشف عن عمق الأزمة الاجتماعية في قلب المنظومة التعليمية.
الوجه الأكثر صرامة في تجربة بنكيران كان في التعامل مع الحق في الإضراب والاحتجاج. فبدل حماية الإضراب كأداة تفاوض اجتماعي مشروعة، تم تكريس قاعدة “لا أجر مقابل الإضراب” عبر الاقتطاع من رواتب المضربين في عدد من القطاعات. هذا السلاح المالي فهم في الأوساط النقابية باعتباره عقابا جماعيا ورسالة واضحة مفادها أن كلفة الاحتجاج لن تكون فقط مهنية بل معيشية أيضًا. بالتوازي، دُفع في اتجاه تنظيم الحق في الإضراب بنصوص قانونية مثيرة للجدل، رأت فيها النقابات محاولة لتضييق هامش الفعل النقابي أكثر من كونها تنظيمًا متوازنًا لهذا الحق.
كل تلك القرارات جاءت مترافقة مع آلة خطابية ساحرة. بنكيران ظل يظهر أمام الرأي العام كرجل بسيط، قريب من الناس، يستشهد بحياتهم اليومية في خرجاته الإعلامية والبرلمانية، ويوظف لغة دينية وشعبية في آن واحد ليصوغ صورة “الرجل النزيه الذي أُجبر على اتخاذ قرارات مؤلمة لإنقاذ البلاد”. لكن المواطن الذي كان يسمع هذا الخطاب هو نفسه الذي يواجه في نهاية الشهر فواتير أثقل، وثمنا أعلى للمحروقات، ومستقبلا وظيفيا أقل ضمانا، وحقوقا نقابية مهددة بالاقتطاع أو التقييد. هذا التناقض الصارخ بين لغة القرب وسياسات القسوة هو ما ترك جرحًا عميقًا في الذاكرة الاجتماعية.
اليوم، ومع اشتداد الأزمة الاقتصادية وعودة الغلاء والبطالة إلى واجهة المشهد، وخيبات الحكومة الحالية يعود الخطاب الشعبوي لابنكيران ليطرق الأبواب من جديد. ممفترضا بقوة العودة المحتملة ، أو لأي نموذج مشابه، كحل سحري لأزمة معقدة بُني جزء كبير منها على نفس “الإصلاحات” التي جرى تمريرها في عهده. الخطر هنا ليس في الاسم وحده، بل في النموذج: نموذج يجعل الغضب الشعبي مادة انتخابية، ويحول الألم الاجتماعي إلى رصيد سياسي، ثم يعيد توزيع كلفة “الإنقاذ” على الأضعف، لا على الأقوى.
المطلوب اليوم ليس فقط تذكر القرارات القاسية التي طبقت في ذلك العهد، بل فهم المنطق الذي يحكمها حتى لا يعاد إنتاجه بوجوه جديدة. فالشعبوية لا تحاسب نفسها، بل تعيش على ضعف الذاكرة الجماعية. وكلما نسي الألم السابق، عادت الوعود نفسها بعبارات أكثر بريقا. مواجهة هذا المسار لا تكون بالانجرار إلى حروب الأسماء، بل ببناء وعيٍ نقدي يرى في كل خطاب عاطفي يدغدغ المشاعر، ويعزف على وتر الدين، سؤالا مشروعًا: من سيدفع ثمن هذه الشعارات عندما تتحول إلى قرارات؟
المغرب اليوم في حاجة إلى عقد سياسي جديد، لا يعد بالمعجزات بل بالصدق...يعترف بعمق الأزمة وبأن الإصلاح يحتاج وقتا وتضحيات، ومحاربة للفساد بشجاعة وصدق، وبرؤية تبدأ بمحاسبة جيوب الامتياز والريع، لا من جيوب الموظفين البسطاء والفئات الهشة. عقد يضمن توزيعا عادلا للأعباء، ويعيد الاعتبار للحوار الاجتماعي بدل معاقبة المحتجين، ويحيي الثقة في السياسة والمؤسسات كمسار للتغيير لا كآلة لإعادة إنتاج الخيبة.
عودة بنكيران أو أي نسخة من هذا النموذج ليست قدرا محتومًا، بل خيار تصنعه صناديق الاقتراع ودرجة وعي المجتمع. وإذا كان الماضي قد كشف ثمن الشعبوية حين تتحول إلى سلطة، فإن المستقبل مرهون بقدرة المغاربة على التعلم من تلك التجربة، لا على إعادة تدويرها في لحظة يأس جديدة.
خالد أخازي، كاتب وإعلامي