Saturday 29 November 2025
كتاب الرأي

سعيد ودغيري حسني: العقارب تسافر.. من تونس إلى قصور الأندلس

سعيد ودغيري حسني: العقارب تسافر.. من تونس إلى قصور الأندلس سعيد ودغيري حسني
وأنا أتجوّل بشارع الحبيب بورقيبة بتونس العاصمة، لفتت نظري ساعة كأنها صومعة شامخة تُسمّى المونڨيلا (Mongella)، تقف وسط زحام الناس كأنها حارسة الزمن.
ومنذ لمحتها أخذتني حكايتها في رحلة عبر قرون ومدن وأسماء، هذه المونڨيلا يُرجّح أن أصلها تحريف تونسي لكلمة فرنسية.. ربما من Montre أو Horloge صارت حروفها تتلوّن بعبق المدينة صارت جزءاً من ذاكرة الزقاق والمقهى والحديث العابر ساعة تدق فلم تعد تسمع فقط دقّاتها بل تسمع معها ضحكات المارة وخفقات القلوب.
 
ومن تونس تمتد الرحلة إلى المغرب حيث تتراءى «المْگانة»... اسم عريق يُرجّح أنه من جذر عربي قديم يدل على آلة وميزان...
كبرت الكلمة مع الأسواق ومع دقّ المطر على السقائف..
وصارت عقاربها تمشي في وجدان الناس قبل الجدران..
 
بين مونڨيلا ومْگانة نرى كيف ينحت الإنسان لغته الخاصة بالزمن.... كيف يصنع من عقارب الساعة نبضاً يعكس روحه ومكانه.... ثم نعبر البحر إلى ضفاف أوروبية حيث تنطق الساعة أسماء لها إيقاعها الخاص
 
في لندن يرتفع برج شهير يُعرف بـ (Big Ben)، وهو في الواقع الجرس وساعته الكبيرة داخل برج (Elizabeth Tower)
أصبح رمزاً لبلد يسرع الزمن بدقات رنانة تُطلّ على العاصمة...في هذه الأرض تُنطق الساعة بالإنجليزية (Clock أو Clock( Tower.... لفظ جاف هندسي صلب بقوة الحديد والنحاس يدل على دقة ومكانة
 
وفي ألمانيا تسمّى الساعة (Uhr) والساعة البرجية( Turmuhr)...كلمةٌ واضحة صلبة تُجسّد النظام والدقة والالتزام بالوقت ..أما في لغات إسكندنافية فتجد في السويدية (Klocka )وفي النرويجية( Klokke)..... وفي الدنماركية Ur وكأن كل لفظٍ يختصر شعور المجتمعات بالمكان والزمان......الآلات هناك دقيقة، صامتة، لكن في صمتها تحكي عن التاريخ والصناعة والتقدم... 
 
ثم نصعد في التاريخ إلى جنوب أوروبا إلى أرض الأندلس، حيث في قصر Alhambra في غرناطة كانت ساعة مائية عظيمة، تزيّنها تماثيل 12 أسداً ترقد حول نافورة مركزية، يُرجّح أن أصلها كان ساعة مائية: مياه تُملأ حوضاً تتوسطه السنن..
وعند كل ساعة يفيض مجرى خفي فيسيل الماء من فم أحد الأسود في ترتيب يعكس تقاسيم الزمن حتى منتصف النهار..
 
هذه الساعة لم تكن مجرد زينة بل كانت هندسة شاعرية...مزجت بين الماء والحجر بين الضوء والظل بين الزمان والمكان..
لتجسد أن الزمن ليس ما نقرأه على عقارب بل ما نشعر به...حين الماء يهمس على حجر حين الصمت يكسر على صدى تدفق..
 
وفي المغرب في( Dar al-Magana )بفاس كانت ساعة مائية عتيقة، تعود إلى القرن الرابع عشر لخدمة Bou Inania Madrasa، تعطي أوقات الصلاة بدقة عبر أوعية معدنية وكرات معدنية، تسقط كل ساعة في إناء وكل إناء عند سقوطه يعلن الساعة..
بينما الماء يتدفّق بهدوء من خزان ليثبت إيقاع الزمن..
وقبل كل هذه الساعات المائية والنحاسية والبرجية..
كانت هناك آلة زمنٍ أقدم وأقرب للسماء: الساعة الشمسية..
عصا تُغرس في الأرض، وشمسٌ تعلو، وظلٌّ يمتد ويتقلّص
لا يحتاج الإنسان فيها إلى جرس ولا عقارب ولا آلية..
يكفيه أن يراقب حركة الظل..
ليعرف بداية النهار ومنتصفه وعتبة المساء..
 
في بلاد المغرب والأندلس كانت الساعة الشمسية مُعلّمة الصلوات
ومعلّمة الظلال
يحملها الفقيه والفلكي في عقلهما قبل أن تنقش على الحجر
يراقبان حركة الظل كما تُقرأ آيات الضوء
وكأن الزمن كان يُفهم لا بأرقام
بل بحديثٍ صامتٍ بين الأرض والسماء
 
وهكذا بين تونس والمغرب والأندلس وإنجلترا وألمانيا والدول الإسكندنافية
بين مونڨيلا ومْگانة وClock وBig Ben وUhr وKlocka وساعة الأسود المائية
وبين الساعة الشمسية التي كتبت الزمن بالضوء
بين عقارب من نحاس وغيوم من ماء وظلال من ضوء
بين أسماء تتغير لكنها تؤدي نفس الرسالة: الزمن يمضي
لكن الإنسان بحاجته لاسم آلة حارس صامت
يحاول أن يشبع عطشه له أن يسأل الساعة متى تأتي
فيجيبه: عند أول قطرة ماء أو أول رنين نحاسي أو أول صمت بين أسدين
…نسينا الطرق الى الساعة الشمسيه