Tuesday 28 October 2025
Advertisement
خارج الحدود

عبد الرفيع حمضي: غزة… من يستحق أن يُدفن؟

عبد الرفيع حمضي: غزة… من يستحق أن يُدفن؟ عبد الرفيع حمضي
في منتصف أكتوبر 2025، أُعلن عن اتفاقٍ جديد لوقف إطلاق النار في غزة، رعته وأشرفت على تفاصيله الولايات المتحدة الأمريكية بمشاركة قطر ومصر وتركيا والاتحاد الأوروبي، في واحدة من أكثر الوساطات الدولية تعقيدًا منذ بداية الحرب. وقد تضمَّن الاتفاق عشرين بندًا، أبرزها التزام حركة “حماس” بإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين الأحياء، وتسليم رفات المتوفين منهم، مقابل فتح المعابر، وعبور المساعدات الإنسانية، وبدء عملية إعادة الإعمار التدريجية. ومع دخول الاتفاق حيّز التنفيذ، بدأت الشاحنات تعبر وخرجت دفعات الأسرى، في مشهدٍ أعاد قليلًا من الأمل إلى منطقةٍ أنهكها الحصار والموت.
غير أن نتنياهو، الذي وافق مضطرًا على الاتفاق تحت ضغط داخلي ودولي، عاد للتهديد حين واجه أثناء تنفيذ الاتفاق عقبة غير متوقعة حيث سلّمت حماس كل ما في حوزتها من رفاة الرهائن ، تبيّن أن حوالي خمسة عشر جثة ما تزال مفقودة. قالت الحركة إن هذه الرفات ليست لديها، وإنها على الأرجح ما تزال تحت أنقاض المباني المدمّرة في شمال غزة، وإن استخراجها يتطلب معدات تقنية ضخمة وخبرة هندسية خاصة. وبعد هياط ومياط وشفاعة من قريش دخل فريق مصري ومعه آليات متطورة للمساعدة في البحث، في مشهدٍ يختصر مأساة العصر: العالم يتحرك من أجل جثة محددة، بينما يرقد تحت الركام خمسة عشر ألف إنسان فلسطيني لم يُذكر منهم أحد. وبذلك، عاد الجسد إلى صدارة السياسة.
للجسد في الموروث اليهودي مكانة طقسية مقدسة؛ فهو وعاء الروح الذي يجب أن يُستعاد ويُدفن كاملًا، حيث تُعتبر عودة الرفات دليلَ وفاءٍ قومي وواجبًا دينيًا في آنٍ واحد. أما في الوجدان الإسلامي، فالجسد عبورٌ لا امتلاك، والموت شهادة لا خسارة. الشرف لا في الرفات بل في المعنى، والكرامة لا في الدفن بل في الموقف. ولذا قال علي بن أبي طالب يوم استُشهد: “فزتُ ورب الكعبة” — لأنه لم يكن يبحث عن قبر، بل عن معنى يستحق الحياة والموت معًا.
لكن نتنياهو لا يتحرك بدافع الإيمان، بل بدافع الأنا السياسوية. فكل رفاتٍ تُسترجع تمنحه انتصارًا رمزيًا أمام ناخبيه الذين يزدادون انقسامًا، وكل تأخيرٍ يمنحه وقتًا سياسيًا ثمينًا. إنه يعرف أن سنة 2026 ستكون مفصلية: انتخابات فلسطينية مؤجلة منذ عقدين، وانتخابات إسرائيلية يُراهن فيها على البقاء، وتجديد جزئي للكونغرس الأمريكي قد يعيد تشكيل أولويات واشنطن في الشرق الأوسط. لذلك يسعى إلى إدارة الحرب بالزمن لا بالسلاح، وبالرمز لا بالواقع، حتى يربح ما يمكن ربحه من وقتٍ وانتظارٍ وتوازنٍ هشٍّ أمام الداخل والخارج.
ولعل في هذا ما يعيدنا إلى التاريخ القديم، حين تنازعت جيوش الإسكندر الأكبر على جسده أكثر مما تنازعت على عرشه، لأن من يملك الجثمان يملك الشرعية. واليوم، يتكرر المشهد بصورة معاصرة: جثث تُستدعى لتبرير سياسةٍ أو تأجيل اتفاق، بينما تتحول آلاف الجثث الأخرى إلى ظلالٍ بلا اسم.
شهداء غزة يموتون مرتين: مرةً تحت القصف، ومرةً في النسيان. ومع ذلك، فإن موتهم ليس بلا معنى، فهو يفضح عالمًا يصر على التمييز حتى بين الجثث، ويكشف سقوط الضمير الإنساني الذي صار يزن الأرواح بميزان القوة.
في الحرب كما في السلام، يُقاس الإنسان بما تبقيه ذاكرته، لا بما تتركه جثته. وما يفعله نتنياهو اليوم ليس دفاعًا عن الموتى، بل توظيفًا لهم. إنه يريد أن يجعل من الرفات وسيلةً لتمديد بقائه، ومن الجسد ذريعةً لإدامة الخوف، ومن الدم عنوانًا لمرحلةٍ سياسية يعيشها العالم على حافة نسيان الضمير.
وفي الختام، إذا كانت كل حضارة تُعرف بطريقة تعاملها مع موتاها،فإنه حين يُصبح الدفن امتيازًا، والموت ملفًا تفاوضيًا، فإننا نكون قد غادرنا حدود الإنسانية.