هناك لحظات تبدو متباعدة في ظاهرها، لكنها تلتقي في جوهرها.
ففي أسبوع واحد عاش العالم حدثين مختلفين ،فوز المنتخب الوطني لأقل من 20 سنة بكأس العالم على نظيره الأرجنتيني بملعب “ناسيونال خوليو مارتينيز برادانوس” بالعاصمة التشيلية سانتياغو، في مباراةٍ أدارها حكمٌ إيطالي — ماوريتسيو مارياني — صارم الملامح، عادل القرار، لا تساوره انفعالات الجمهور ولا حسابات الأبطال؛ وحدثٌ ثانٍ في فرنسا، بسجن La Santé الذي يقع بالدائرة 14 بباريس، حيث فُتحت أبوابه لاستقبال الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي تنفيذًا لحكمٍ قضائي، بعدما كان قد أودع فيه أول سجين سنة 1870، وقد استضافت هذه المؤسسة السجنية عبر تاريخها العديد من الأسماء الكبيرة في مجالات السياسة والفكر والصحافة والفن.
فقد تبدو المباراة مجرد رياضة، وسجن الرئيس مجرد واقعةٍ سياسية، لكن بين الحدثين خيطٌ رفيع من المعنى: عندما يكون الحَكم حكمًا، وتكون العدالة ثقافةً تؤسس للأمن والطمأنينة في النفوس.
أفلاطون عندما تحدث عن المدينة الفاضلة، جعل من العدالة “الفضيلة الكاملة، لأنها تتعلق بالآخرين”.
فلا استقرار بلا قضاءٍ مستقل، فالقانون في جوهره ضميرٌ مؤسسيٌّ يحمي المجتمع من نزوات القوة وميل الأهواء.
ولذلك، فإن القاضي الذي يُصدر حكمه عن قناعةٍ مستقلةٍ، كالحَكم في الملعب الذي لا يخشى احتجاج الجماهير، فهو الذي يمنح للمجتمع إحساسًا بأن ميزان العدالة ما زال قائمًا، وأن النظام العام ليس صراعًا بين الأقوياء، بل تعاقدٌ على الإنصاف. لأن الهيبة لا تُفرض بالسلطة، بل تُكتسب بالعدالة.
ذلك ما شعرت به الجماهير وهي تتابع مباراة النهائي؛ فالحَكم الذي لا يتردد، لا يصرخ، ولا يخضع للضغط، هو الذي يحظى باحترام اللاعبين والمشاهدين على حدٍّ سواء.
وفي المقابل، كان المشهد الفرنسي أكثر عمقًا: قضاءٌ لا يتردد في تنفيذ حكمه على رئيسٍ سابق، دون شماتةٍ أو انتقام، بل باسم مبدأ بسيط لا أحد فوق القانون، وهو مبدأ طالما دافع عنه ساركوزي نفسه كمحامٍ قبل أن يكون رئيسًا.
هنا تتجلى فلسفة الدولة الحديثة وغايتها حماية المؤسسات، اولا وأخيرا والتي تدرك أن احترام القضاء ليس إهانةً للسلطة التنفيذية، بل ضمانٌ لاستمرارها في منطق الدولة لا منطق الغلبة.
في مجتمعاتنا العربية والإفريقية، ما زال القضاء يتحرك في فضاءٍ متوترٍ بين إكراهات الإدارة وانتظارات المجتمع، بين من يريد له أن يكون أداةً للضبط، ومن يتصوره حصنًا للإنصاف.
فنُطالب القضاء بالحياد والصرامة، لكننا نُحاصره بشبكات الولاء والضغط الرمزي. نُعلي من شأن القضاء كسلطة في الخطاب، ثم نُقزّمه في الممارسة اليومية، حين نربط العدل بالأشخاص لا بالمؤسسات.
إن إشكالية القضاء في العالم الثالث ليست تقنية ولا قانونية فحسب، بل هي إشكالية ثقافية وأنثروبولوجية في جوهرها، لأنها ترتبط بالتصور الجماعي للسلطة وللحقيقة. فحيث يسود منطق “الوجاهة” بدل منطق “الشرعية”، فيصبح القاضي مفسِّرًا للنظام لا حارسًا للحق، وتتحول العدالة إلى تمثيلٍ رمزيٍّ أكثر منها ممارسةً عقلانية.
المجتمع الذي لم يترسخ فيه الإيمان بسمو القانون على العاطفة، ولا بسمو المعيار norme على الانتماء، يعجز عن إنتاج قضاءٍ مستقلٍّ بحق، لأن العدالة لا تُبنى فقط بنصوص الدستور، بل بثقافةٍ تُقدِّس المعيار وتحدّ من نزوات القوة.
فالقضاء المستقل هو ثمرةُ نضجٍ مدنيٍّ طويل، لا مجرد إجراءٍ من إجراءات الدولة.
وبالتالي، ففوز المنتخب المغربي كان انتصارًا للانضباط، وللروح الجماعية، ولكن أيضًا لثقة اللاعبين في قواعد اللعبة.
وفي المقابل، فإن دخول رئيسٍ فرنسي السجن لم يُضعف الجمهورية، بل قوّاها، لأن المواطن حين يرى مسؤولًا ساميًا يُحاسَب، يزداد إيمانه بأن المؤسسات أكبر من الأفراد، وأن القضاء ليس مرآةً للإدارة، بل ميزانٌ للضمير الجمعي. هنا تكمن القوة الحقيقية للدولة.
ففي أسبوع واحد عاش العالم حدثين مختلفين ،فوز المنتخب الوطني لأقل من 20 سنة بكأس العالم على نظيره الأرجنتيني بملعب “ناسيونال خوليو مارتينيز برادانوس” بالعاصمة التشيلية سانتياغو، في مباراةٍ أدارها حكمٌ إيطالي — ماوريتسيو مارياني — صارم الملامح، عادل القرار، لا تساوره انفعالات الجمهور ولا حسابات الأبطال؛ وحدثٌ ثانٍ في فرنسا، بسجن La Santé الذي يقع بالدائرة 14 بباريس، حيث فُتحت أبوابه لاستقبال الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي تنفيذًا لحكمٍ قضائي، بعدما كان قد أودع فيه أول سجين سنة 1870، وقد استضافت هذه المؤسسة السجنية عبر تاريخها العديد من الأسماء الكبيرة في مجالات السياسة والفكر والصحافة والفن.
فقد تبدو المباراة مجرد رياضة، وسجن الرئيس مجرد واقعةٍ سياسية، لكن بين الحدثين خيطٌ رفيع من المعنى: عندما يكون الحَكم حكمًا، وتكون العدالة ثقافةً تؤسس للأمن والطمأنينة في النفوس.
أفلاطون عندما تحدث عن المدينة الفاضلة، جعل من العدالة “الفضيلة الكاملة، لأنها تتعلق بالآخرين”.
فلا استقرار بلا قضاءٍ مستقل، فالقانون في جوهره ضميرٌ مؤسسيٌّ يحمي المجتمع من نزوات القوة وميل الأهواء.
ولذلك، فإن القاضي الذي يُصدر حكمه عن قناعةٍ مستقلةٍ، كالحَكم في الملعب الذي لا يخشى احتجاج الجماهير، فهو الذي يمنح للمجتمع إحساسًا بأن ميزان العدالة ما زال قائمًا، وأن النظام العام ليس صراعًا بين الأقوياء، بل تعاقدٌ على الإنصاف. لأن الهيبة لا تُفرض بالسلطة، بل تُكتسب بالعدالة.
ذلك ما شعرت به الجماهير وهي تتابع مباراة النهائي؛ فالحَكم الذي لا يتردد، لا يصرخ، ولا يخضع للضغط، هو الذي يحظى باحترام اللاعبين والمشاهدين على حدٍّ سواء.
وفي المقابل، كان المشهد الفرنسي أكثر عمقًا: قضاءٌ لا يتردد في تنفيذ حكمه على رئيسٍ سابق، دون شماتةٍ أو انتقام، بل باسم مبدأ بسيط لا أحد فوق القانون، وهو مبدأ طالما دافع عنه ساركوزي نفسه كمحامٍ قبل أن يكون رئيسًا.
هنا تتجلى فلسفة الدولة الحديثة وغايتها حماية المؤسسات، اولا وأخيرا والتي تدرك أن احترام القضاء ليس إهانةً للسلطة التنفيذية، بل ضمانٌ لاستمرارها في منطق الدولة لا منطق الغلبة.
في مجتمعاتنا العربية والإفريقية، ما زال القضاء يتحرك في فضاءٍ متوترٍ بين إكراهات الإدارة وانتظارات المجتمع، بين من يريد له أن يكون أداةً للضبط، ومن يتصوره حصنًا للإنصاف.
فنُطالب القضاء بالحياد والصرامة، لكننا نُحاصره بشبكات الولاء والضغط الرمزي. نُعلي من شأن القضاء كسلطة في الخطاب، ثم نُقزّمه في الممارسة اليومية، حين نربط العدل بالأشخاص لا بالمؤسسات.
إن إشكالية القضاء في العالم الثالث ليست تقنية ولا قانونية فحسب، بل هي إشكالية ثقافية وأنثروبولوجية في جوهرها، لأنها ترتبط بالتصور الجماعي للسلطة وللحقيقة. فحيث يسود منطق “الوجاهة” بدل منطق “الشرعية”، فيصبح القاضي مفسِّرًا للنظام لا حارسًا للحق، وتتحول العدالة إلى تمثيلٍ رمزيٍّ أكثر منها ممارسةً عقلانية.
المجتمع الذي لم يترسخ فيه الإيمان بسمو القانون على العاطفة، ولا بسمو المعيار norme على الانتماء، يعجز عن إنتاج قضاءٍ مستقلٍّ بحق، لأن العدالة لا تُبنى فقط بنصوص الدستور، بل بثقافةٍ تُقدِّس المعيار وتحدّ من نزوات القوة.
فالقضاء المستقل هو ثمرةُ نضجٍ مدنيٍّ طويل، لا مجرد إجراءٍ من إجراءات الدولة.
وبالتالي، ففوز المنتخب المغربي كان انتصارًا للانضباط، وللروح الجماعية، ولكن أيضًا لثقة اللاعبين في قواعد اللعبة.
وفي المقابل، فإن دخول رئيسٍ فرنسي السجن لم يُضعف الجمهورية، بل قوّاها، لأن المواطن حين يرى مسؤولًا ساميًا يُحاسَب، يزداد إيمانه بأن المؤسسات أكبر من الأفراد، وأن القضاء ليس مرآةً للإدارة، بل ميزانٌ للضمير الجمعي. هنا تكمن القوة الحقيقية للدولة.
قال مونتسكيو يوما :
«ليس هناك حريةٌ إذا لم يكن القضاء مستقلاً عن السلطة التشريعية والتنفيذية.»
فبدون قضاءٍ مستقل لا معنى للوطن، وبدون حَكم عادل لا معنى للفوز ،ولا للكأس حتى. الف مبروك