Friday 3 October 2025
فن وثقافة

عبد الصمد الشنتوف: أوليفيا في طنجة

عبد الصمد الشنتوف: أوليفيا في طنجة عبد الصمد الشنتوف
كانت تسير في الطريق بمفردها. خطواتها ثابتة، كلها رشاقة وثقة. ترتدي فستانا أحمر قصير. ممشوقة القوام. لا شيء يثير اهتمامها ولا أحد يلفت نظرها. نسمات هواء دافئ تلاطف وجهها، فيما شعرها الأصفر يتراقص على كتفيها. جميع أرجاء المدينة إن لم تكن كلها تنبض بأجواء الحياة. شارع المكسيك تدب فيه حركة غير عادية. الناس خرجت للتسوق بالآلاف، وحافلات تتوقف وسط الطريق لتربك حركة السير.
كانت الشمس قد مالت إلى الغروب. قرص الشمس قد توارى كليا خلف الأبنية الإسبانبة العالية. فاصطبغت سماء طنجة بلون قرمزي فاتح.
ما أن بلغت محل العطور حتى انعطفت يمينا لتتوغل أكثر في شارع روكسي الصاخب.
دلفت الحسناء إلى الحانة ووقفت عند الكونتوار. سألتها البارميطا: 
- هل من مشروب؟. 
ردت عليها بصوت رخيم فيه غنج:
- "جين طونيك" مع الليمون من دون ثلج. مظهرها يبدو فاتنا، وشعرها مصفف، ووجهها مثقل بالأصباغ تعلوه غمازتين.
على الفور، لفتت أبصار جمهور الرواد، فمالوا جميعا بكؤوسهم ورؤوسهم تجاهها، وكأنهم يتابعون مباراة التنس. أطلقوا صيحة واحدة "واووو" !
في ركن قصي معتم، يجلس بومهدي صحبة رفيقه بوغالب يقارعان كؤوس الجعة. بوغالب لا يتوقف عن الكلام، حكيه كله شكوى من زوجته ربيعة، أما  بومهدي فكله أذن صاغية، يصغي إلى صاحبه بتمعن فائق. يظل الرجلان هكذا منهمكين في حديث مغر ومطول حتى آخر فلس في جيبهما.
أخرجت الحسناء من حقيبة يدها البنفسجية علبة سجائر، ثم ألصقت سيجارة في فمها. مدتها البارميطا بمشروب في كوب قصير ملبية طلبها، ما لبثت أن قذفته في جوفها دفعة واحدة، ثم أخذت تشفط الدخان بانتشاء وتلذذ.
 كان صوت الشاب خالد يصدح بقوة في كل زوايا البار، يردد أغنية "ديدي ديدي"! تلك الأغنية التي آلمت بوغالب إلى حد كبير، لأنها  تذكره بشيء جارح يتكسر في داخله. كلما زاد صياح خالد "ديدي ديدي" كلما ازداد ألم بوغالب، قلبه ينزف ويعتصر وجعا. فما كان منه إلا أن اقتحم الصفوف ليصل إلى الكونتوار مطالبا بخفض صوت المذياع أو إغلاقه. على حين غرة، استدار إلى يمينه فإذا بعينيه تصطدم بعينيها. ابتسمت الشقراء في وجهه، فلاح على محياه فرح طفولي. عاد إلى بومهدي ليخبره بما رأت عيناه، فرد عليه الأخير لا شك أنها "كاورية"، غير أن بوغالب أصر بشدة على أنها بنت البلد. اشتعل لغط بينهما، فاهتديا إلى حل وسط. قال بومهدي نخوض الرهان، والخاسر يجب عليه دفع ثمن الشراب. ماذا أنت تختار؟ رأس الملك أم العرش؟ اختار بوغالب العرش بينما راهن بومهدي على رأس الملك. 
لا ريب أن قصة بوغالب حزينة، لأن المرأة التي تزوجها عن حب جارف، بدأت تتمرد عليه وتقلل من احترامه، سيما لما صار وضعه المادي مترديا. وحين شعر بحاجته إلى المال أقدم على بيع جهاز التلفاز. ربيعة لم تستسغ الأمر، فغشيتها حالة هيجان. أخذت تصرخ وتهاجمه كل مرة مفتعلة شجارا بشكل يومي. 
فجأة، انتابت بوغالب نوبة بكاء شديدة، وشرع يردد: لم يعد للحب وجود، لم يعد للحب وجود. الحب أكذوبة! فيرد عليه بومهدي بعد أن طفح سكره: الحب أكذوبة، والوطن أكذوبة أيضا! لا تكن غافلا، بمجرد أن تفقد المال يطير الحب، ويطير كل شيء، فيتخلى عنك الجميع. مؤسف حقا أن تنقلب عليك تلك العجفاء.
سحب بوغالب من جيبه قارورة بيضوية الشكل تضم مسحوق "طابة"، ورسم خيطا رقيقا على ظهر يده قبل أن يستنشقه في رمشة عين، وكأنه يقصد التزود بطاقة زائدة لمواصلة حديثه الشائك عن زوجته المتسلطة.
جاء رجل ثالث يدعى الروبيو فانضم إليهما، وهو شخص معروف في المدينة كدليل سياحي مزيف. لا شيء يجمع بين هؤلاء الرجال سوى أنهم يقتسمون الشكوى من مصاعب الحياة وهموم البيت والزواج. لم يتردد بومهدي في التودد إلى الروبيو راجيا إياه فك لغز المرأة الواقفة عند الكونتوار قائلا: دخلت في رهان مع بوغالب على مشروب بودوايزر، وأعرف أنك مرشد سياحي ماهر تمتلك خبرة كبيرة مع النصارى والسياح، هلا تبينت هوية تلك الحسناء، هل هي كاورية أم مغربية. فرد الروبيو بلسان الواثق: هذا أمر هين، لا تقلق. فما كان منه إلا أن راح ليقف بجوار الشقراء متحينا الفرصة لإشراكها في الحديث معه.
بعد ثوان معدودة، استجمع قواه ثم بادرها بإنجليزية ركيكة: هل ممكن أن أتعرف عليك سيدتي؟
لم تعجبها طريقته في الكلام، فنفرت منه كنفور القط من رائحة الليمون، مستشعرة منه التحرش. ما لبثت أن رمته بنظرة شزراء ثم خاطبته بنبرة فيها اشمئزاز: اغرب عن وجهي (get lost). 
سرعان ما التقطت حقيبتها الأنيقة في توتر لافت، وتوجهت نحو الباب معلنة الانصراف. أما الروبيو فظل يرمقها من الخلف دون ان يستوعب ما حدث. صمت هنيهة، لكن الفضول كان يتأرجح داخل جمجمته بشدة، مما دفعه إلى استفسار البارميطا بصوت خفيض:
- من تكن هذه الكاورية المتعجرفة؟
فردت عليه بمزيج من السخرية والاستغراب:
- ألا تعرفها؟ حسبتك تعرف جميع النصارى المقيمين بطنجة، فكيف غابت عنك هذه المعلومة؟
- كلامك صحيح لكن هذه الكاورية أربكت حساباتي و أفلتت من قبضتي.
- افترت شفتا البارميطا بابتسامة هازئة، ثم تفوهت برد كاد يصيب الروبيو بالدوخة:
- ⁠إنها أوليفيا، زوجة صاحب الحانة الجديد.
لاحت على وجه الروبيو أثر الصدمة، ما فتئ أن عاد إلى مجلسه مهزوما متجهما ليطلع رفيقيه على النتيجة. أمسك بقطعة نقدية من فئة الدرهم، فرماها عاليا في الهواء حتى سقطت في بطن يده. بات واضحا أن رأس الملك هو الرابح. وهكذا خسر بوغالب الرهان، في حين أطلق بومهدي صيحة مدوية:
- نجاة، أحضري لي زجاجة بودوايزر عفاك !