Tuesday 25 November 2025
كتاب الرأي

عبد اللطيف رويان: لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص

عبد اللطيف رويان: لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص عبد اللطيف رويان
رغم المكانة المحورية التي يحتلّها مبدأ «لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص» في المنظومة الجنائية المعاصرة، بوصفه حاجزاً معيارياً ضد التعسّف وضمانة لحدود ممارسة السلطة، فإن إخضاعه لقراءة خارج سياقه التاريخي والاجتماعي يكشف عن مفارقة منهجية عميقة. إننا نجد هذا المبدأ ينهض، من الناحية الأخلاقية، بدور صمام أمان للحرّية الفردية ودرع ضد الانزلاق التأويلي، غير أنّه يشتغل عملياً -وبصورة غير مصرح بها - كآلية لإعادة إنتاج سلطة معيارية كامنة داخل البنية الاجتماعية؛ إذ يتحوّل النص، الذي يُفترض فيه أن يقيّد السلطة ويحدّد مجال تدخّلها، إلى أداة قد تُوسّع نطاق هذه السلطة أو تُطوّعه بما يضمن حضورها الضمني، ولكن في صورة أكثر هدوءاً وشرعية. بهذا المعنى، يصبح النص القانوني وسيطاً لإنتاج أثر سلطوي أعمق مما يظهر للوهلة الأولى، عبر ما يتيحه من إمكانات لإعادة تشكيل الحدود المعيارية داخل الفضاء الجنائي.
 
فبعد أن كان هذا الأثر المعياري للنص صعب الرصد أو التفسير في مراحل تاريخية سابقة، أصبحت ملامحه أكثر وضوحاً مع التحولات التي أفرزها الفضاء الرقمي خلال السنوات الأخيرة. فقد برزت أنماط جديدة من الإيذاء الجنائي غير المرئي في العالم الافتراضي – مثل الاستهداف الخفي عبر الخوارزميات، والتلاعب السلوكي بواسطة حسابات مجهولة المصدر، وتسريب البيانات بآليات يصعب ضبطها تقنياً، إضافة إلى صور الاحتيال الإلكتروني المتعددة – ما جعل المنظومة القانونية أمام تحدٍّ عملي يتعلق بقدرة القواعد الجنائية الكلاسيكية على استيعاب هذه الظواهر المستجدة. وفي ظل غياب نصوص تجريمية صريحة، تتشكل فجوة تشريعية تُخرج كثيراً من الأفعال الضارة اجتماعياً من دائرة الملاحقة، ليس لانعدام خطورتها أو أثرها الاجتماعي، بل لأنها لم تُدرج بعد ضمن التصنيفات المعيارية التي يعتمدها القانون الجنائي.
 
وحتى حينما يُسارع المشرّع لاحقاً إلى سدّ هذا الفراغ، قد تُنتِج النصوص الجديدة مجالاً معيارياً واسعاً للتأويل، بما قد يفضي- في بعض الحالات - إلى تطبيقات تتجاوز الحدود التي افترضها واضعوها. ولا يعود ذلك إلى قصد تشريعي موجَّه، بقدر ما يعكس النتيجة الطبيعية للتفاعل المعقّد بين النص القانوني وتطور الممارسات الاجتماعية والتكنولوجية بوتيرة تفوق قدرة المنظومة القانونية على الاستيعاب والتنميط.
 
إن مبدأ «لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص» يستمدّ جذوره من مرحلة تاريخية كانت فيها السلطة الجنائية واسعة وغير منضبطة، حيث كان الأفراد عرضة لتجريم أفعال لم تُحدَّد مسبقاً، أو لعقوبات تُفرض وفق تقديرات شخصية لا تحكمها معايير مستقرة. وفي هذا السياق وُلد المبدأ باعتباره استجابة فلسفية وقانونية تروم نقل السلطة العقابية من مجال الإرادة الفردية إلى مجال الضبط القانوني، بحيث يصبح التجريم والعقاب استثناءً مبرراً لا ممارسة مفتوحة بلا حدود. وقد شكّل هذا التحول إحدى الركائز الأساسية لبناء دولة القانون الحديثة، إذ كان الهدف منه إرساء مجال معياري واضح يمكّن المواطن من توقّع العواقب القانونية لأفعاله، بعيداً عن المفاجأة العقابية وتقلبات السلطة غير المقيدة.
 
غير أنّ تطوّر المجتمعات المعاصرة، وما رافقه من تحوّلات اقتصادية ورقمية وثقافية عميقة، أفرز أنماطاً جديدة من التفاعل البشري تُنتج - كما سبق بيانه - سلوكات ضارّة ومعقّدة تتشكّل خارج القوالب التقليدية التي صيغ المبدأ أصلاً لحمايتها. فهذه الظواهر الناشئة، بما تتّسم به من سرعة وتشعّب، تجعل القانون في موقع المتأخر زمنياً عن إيقاع الواقع الاجتماعي. وهنا تتبدّى المفارقة: فالتقيّد الصارم بشروط المبدأ، على الرغم من قيمته الضامنة، قد يحوّل المنظومة الجنائية إلى جهاز استجابة لاحقة، لا يتدخل إلا فيما جرى توصيفه سابقاً، بينما تمرّ مخاطر اجتماعية جديدة أمامه دون أن تلتقطها عدّته المفاهيمية ولا يُمسك بها كاشُوفه القانوني.
 
وبذلك ننتقل، من حيث لا يُقصد عبر هذا المبدأ («لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص»)، من حماية الحرية إلى حماية ما يمكن تسميته بـ«الفراغ التشريعي»، حيث يغدو احترام المبدأ في صيغته الجامدة عائقاً أمام استبصار الظواهر الآخذة في التشكل، بدل أن يكون محرّكاً لاستيعابها وضبطها ضمن رؤية استباقية تراعي دينامية التحوّلات الاجتماعية المستمرة.
 
لم يعد مفهوما الجريمة والسَّواء يتحدّدان حصراً عبر النص القانوني كما يفترض الاتجاه الغالب، بل يتبلوران أيضاً داخل شبكة واسعة من التمثلات الاجتماعية التي تمنح بعض الأفعال دلالات ومعاني خاصة في الوعي الجمعي. فالتجريم (القانوني) لا ينشأ في فراغ، بل يتقاطع غالباً مع تصنيفات قيمية وأخلاقية واجتماعية سابقة عليه، الأمر الذي يجعل الشرعية الجنائية حصيلة تفاعل معقّد بين البنية المعيارية المكتوبة والممارسات والخبرات الاجتماعية المتراكمة. ومن ثمّ يبرز سؤال إبستيمي بالغ الحساسية: هل يظل النص القانوني المصدر الحصري لتعريف الجريمة والعقوبة، أم أنه يمثل في حالات عديدة الصياغة الرسمية الأخيرة لعمليات تمثّل اجتماعي تَشكّلت وانطلقت قبل أن تُترجم إلى قاعدة قانونية مُلزِمة؟
 
إنّ هذا التساؤل لا يرمي إلى التشكيك في قيمة النص القانوني أو في موقعه المركزي داخل المنظومة الجنائية، بل إلى إظهار أنّ اشتغال الشرعية الجنائية يتم عبر طبقات متعددة: فهناك، من جهة، القواعد المكتوبة التي تؤطّر التجريم والعقاب، ومن جهة أخرى منظومات ثقافية وقيمية وأخلاقية تُسهم في تشكيل الحسّ الاجتماعي بما يُعدّ مقبولاً أو مستهجناً، فضلاً عن المستجدات التكنولوجية المشار إليها سابقاً. وهكذا يتبيّن أن القانون، رغم استقلاليته الشكلية، يتفاعل على نحو مستمر مع التحوّلات المجتمعية، فيعيد تمثّلها ضمن لغة معيارية تسعى، قدر الإمكان، إلى تحقيق توازن دقيق بين متطلبات الحماية القانونية ومعياريتها وبين إيقاع الحياة الاجتماعية المتغيّر بسرعات متفاوتة وفي اتجاهات متباينة.
 
وإذ يحرص مبدأ الشرعية على الحدّ من السلطة من خلال تقييد التجريم والعقاب بالنصوص المكتوبة، فإنه يمنح في الواقع المشرّع موقعاً مركزياً في تعريف الأفعال المستحقة للتجريم. وفي ظل ديناميات اجتماعية تتغير بوتيرة سريعة ومعايير تتحول باستمرار، قد يجد المجتمع نفسه معتمداً على فعل تشريعي يتأخر أحياناً عن مواكبة المستجدات، أو يتأثر، بصورة طبيعية، بعوامل متعددة تحيط بعملية سنّ القواعد. ومن هنا يظهر أن مبدأ «لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص»، دون أن يكون ذلك مقصوداً أو ناتجاً عن إرادة معينة، قد يساهم في إبطاء استجابة القانون للتحولات الاجتماعية، حفاظاً على شرط الشرعية الذي يقتضي وضوح النص واستقراره، ولو إلى حين.
 
إن هذا التحليل لا يرمي إلى التشكيك في قيمة المبدأ أو في الوظيفة الحمائية التي يضطلع بها داخل المنظومة الجنائية، بقدر ما يسعى إلى إبراز حدوده العملية في سياق اجتماعي ينتج باستمرار أنماطاً مستجدة من السلوك والتفاعل لا تنسجم دائماً مع التصنيفات الجنائية الكلاسيكية. ومن ثمّ تبرز الحاجة اليوم إلى تبنّي مقاربة أكثر مرونة تُبقي على الضـمانات الجوهرية للشرعية، وفي الوقت ذاته تقرّ بأن التجريم والعقاب ليسا فعلاً قانونياً خالصاً، بل فعلاً اجتماعياً مركّباً يتطلب آليات رصد مبكر للسلوك الضار، وقدراً محسوباً من التكيّف والملاءمة، فضلاً عن أدوات تفسير وتأويل دقيقة تتيح للقانون مواكبة التحولات من دون الإخلال بحدود السلطة أو فتح المجال أمام تقديرات غير منضبطة.
 
بهذا المعنى، فإن مستقبل الشرعية الجنائية لن يتأسس فقط على مبدأ منع التجريم والعقاب خارج إطار النص، بل على قدرة المشرّع على إنتاج نصوص تستوعب المجتمع بوصفه بنية حيّة في حالة تحول دائم ومستمر. نصوص لا تكتفي بترديد قاعدة «لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص»، بل تطرح أسئلة أكثر عمقاً: أي نص نقصد؟ ولأي واقع اجتماعي يوجَّه؟ وبأي وتيرة استجابة؟ ومن خلال أية آليات تشريعية وتنفيذية قادرة على مواكبة التغيرات المتسارعة؟