Friday 3 October 2025
سياسة

المغاربة والإسبان.. عقدة الحب المهان!

المغاربة والإسبان.. عقدة الحب المهان!
يعيش‭ ‬المغاربة‭ ‬علاقة‭ ‬تاريخية‭ ‬وثقافية‭ ‬معقدة‭ ‬يطرحها‭ ‬جواره‭ ‬الصعب‭ ‬مع‭ ‬إسبانيا‭. ‬فرغم‭ ‬المواجهات‭ ‬الحربية‭ ‬التي‭ ‬اندلعت‭ ‬بين‭ ‬الطرفين‭ ‬عبر‭ ‬القرون،‭ ‬ورغم‭ ‬تراكم‭ ‬العداء‭ ‬الذي‭ ‬استحكم‭ ‬في‭ ‬بينة‭ ‬العقل‭ ‬الاسباني‭  ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬تحول‭ ‬معها‭ ‬«المغربي»‭ ‬إلى‭ ‬«الخصم‭ ‬الموضوعي»‭ ‬للإسباني:‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يترجمه‭ ‬الإعلام‭ ‬الإسباني،‭ ‬بل‭ ‬ما‭ ‬تكشف‭ ‬عنه‭ ‬بوضوح‭ ‬الأحزاب‭ ‬والجمعيات‭ ‬الإسبانية،‭ ‬بل‭ ‬حتى‭ ‬الأبحاث‭ ‬الأكاديمية‭ ‬التي‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬منصات‭ ‬لإذكاء‭ ‬الخلاف‭ ‬وتعميق‭ ‬الهوة‭  ‬كلما‭ ‬تعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بالعلاقة‭ ‬مع‭ ‬المغرب‭ ‬-‭ ‬نسجل‭ ‬مغربيا‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬انبهارا‭ ‬واسعا‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يرتبط‭ ‬بالجارة‭ ‬الشمالية،‭ ‬سواء‭ ‬تعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بكرة‭ ‬القدم‭ ‬أو‭ ‬الموسيقى‭ ‬أو‭ ‬اللغة‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬أنماط‭ ‬العيش‭ ‬اليومية،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬الممارسة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والنموذج‭ ‬التنموي‭. ‬وينطبق‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬المؤسسات،‭ ‬حيث‭ ‬«يجتهد»‭ ‬المغاربة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬التعاون‭ ‬مع‭ ‬مدريد‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬السياسي‭ ‬والاقتصادي‭ ‬والأمني‭. ‬وهذا‭ ‬لا‭ ‬ضير‭ ‬فيه‭ ‬مبدئيا‭ ‬مع‭ ‬بلد‭ ‬تحكمنا‭ ‬معه‭ ‬علاقات‭ ‬الجوار‭. ‬

مقابل‭ ‬هذا‭ ‬الانبهار،‭ ‬يواجه‭ ‬المغاربة‭ ‬في‭ ‬الضفة‭ ‬الأخرى‭ ‬نظرة‭ ‬استعلائية‭ ‬تختزلهم‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬"المورو"،‭ ‬وهو‭ ‬وصف‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬قرون‭ ‬من‭ ‬الصراع‭ ‬التاريخي‭ ‬ويستعاد‭ ‬بقوة‭ ‬في‭ ‬الإعلام‭ ‬والسياسة‭ ‬الإسبانية‭ ‬كلما‭ ‬اندلعت‭ ‬أزمة‭ ‬عابرة،‭ ‬كما‭ ‬تستعاد‭ ‬معه‭ ‬إرادة‭ ‬تمزيق‭ ‬الوحدة‭ ‬الترابية‭ ‬للمغرب،‭ ‬ومعاكسة‭ ‬طموحاته‭ ‬في‭ ‬تسوية‭ ‬نزاع‭ ‬الصحراء‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬مقترح‭ ‬الحكم‭ ‬الذاتيـ‭ ‬بل‭ ‬يذهب‭ ‬بعض‭ ‬مسؤولي‭ ‬الأحزاب‭ ‬السياسية‭ ‬المتطرفة،‭ ‬يمينا‭ ‬ويسارا،‭ ‬إلى‭ ‬تصوير‭ ‬المغرب‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬أرض‭ ‬الشرور‭ ‬ومنبت‭ ‬الكوارث‭ ‬وعش‭ ‬الظلم‭ ‬وموطن‭ ‬التخلف‭.‬
 
في‭ ‬المقاهي‭ ‬المغربية،‭ ‬وفي‭ ‬مختلف‭ ‬المدن،‭ ‬تكاد‭ ‬لا‭ ‬تجد‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يتابع‭ ‬الدوري‭ ‬الإسباني،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭. ‬مباريات‭ ‬ريال‭ ‬مدريد‭ ‬وبرشلونة‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬طقس‭ ‬جماعي‭ ‬يخلق‭ ‬انقسامات‭ ‬شبه‭ ‬هوياتية‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬الواحد:‭ ‬هذا‭ ‬مدريدي‭ ‬وذاك‭ ‬برشلوني،‭ ‬كأن‭ ‬الأمر‭ ‬يتعلق‭ ‬بهويتين‭ ‬متقاتلتين‭. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬«الكلاسيكو»‭ ‬صار‭ ‬بمثابة‭ ‬عيد‭ ‬وطني‭ ‬غير‭ ‬معلن،‭ ‬تتوقف‭ ‬فيه‭ ‬أشغال‭ ‬وتتعالى‭ ‬فيه‭ ‬صيحات‭ ‬الفرح‭ ‬أو‭ ‬الخيبة‭ ‬ويعلو‭ ‬الحماس‭. ‬ولهذا‭ ‬ترسخت‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬المغربية‭ ‬أسماء‭ ‬مثل‭ ‬ميسي‭ ‬ورونالدو‭ ‬وراؤول‭ ‬وإنييستا‭ ‬ويامال‭ ‬وبيدري‭ ‬وفينيسيوس‭ ‬ورافينيا‭.. ‬إلخ،‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أسماء‭ ‬لاعبين‭ ‬محليين‭ ‬صنعوا‭ ‬أمجاد‭ ‬الكرة‭ ‬الوطنية،‭ ‬أمثال‭ ‬فرس‭ ‬وسحيتة‭ ‬وبودربالة‭ ‬والظلمي‭ ‬والتيمومي‭ ‬وبصير‭ ‬وكاماتشو‭ ‬والنيبت‭ ‬وحجي‭.. ‬إلخ‭. ‬والمفارقة‭ ‬المؤلمة‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬البطولة‭ ‬المغربية‭ ‬نفسها‭ ‬تفتقر‭ ‬إلى‭ ‬التسويق‭ ‬وإلى‭ ‬قوة‭ ‬الجذب،‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬الشاب‭ ‬المغربي‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬انتماء‭ ‬رياضي‭ ‬في‭ ‬الخارج‭ ‬بدل‭ ‬أن‭ ‬يجد‭ ‬ما‭ ‬يغذيه‭ ‬في‭ ‬الداخل،‭ ‬علما‭ ‬أن‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬لعبة،‭ ‬بل‭ ‬سياسية‭ ‬وثقافة‭ ‬وقوة‭ ‬ناعمة‭ ‬تجسد‭ ‬الطريقة‭ ‬التي‭ ‬تقدم‭ ‬بها‭ ‬كل‭ ‬دولة‭ ‬نفسها‭ ‬على‭ ‬الساعة‭ ‬العالمية،‭ ‬كما‭ ‬صرح‭ ‬مؤخرا‭ ‬النجم‭ ‬الفرنسي‭ ‬السابق‭ ‬إيريك‭ ‬كونتونا‭.‬
 
هناك‭ ‬مستوى‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬علاقتنا‭ ‬بإسبانيا‭ ‬ينبغي‭ ‬التوقف‭ ‬عنده‭ ‬مليا:‭ ‬اللغة‭. ‬فالمغرب‭ ‬منذ‭ ‬عقود‭ ‬جعل‭ ‬الإسبانية‭ ‬لغة‭ ‬أجنبية‭ ‬ثانية‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬عدة،‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬الشمال‭ ‬والجنوب،‭ ‬وفتح‭ ‬الباب‭ ‬واسعا‭ ‬أمام‭ ‬معاهد‭ ‬«سرفانتس»‭ ‬التي‭ ‬صارت‭ ‬تعرف‭ ‬إقبالا‭ ‬لافتا،‭ ‬بل‭ ‬هناك‭ ‬شعب‭ ‬مستقلة‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الثانويات‭ ‬والكليات‭ ‬تهم‭ ‬هذه‭ ‬اللغة‭. ‬كما‭ ‬أخذ‭ ‬آلاف‭ ‬الشباب‭ ‬يتعلمونها‭ ‬بدافع‭ ‬الهجرة‭ ‬أو‭ ‬التجارة‭ ‬أو‭ ‬الدراسة،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬بدافع‭ ‬الفضول‭ ‬الثقافي‭. ‬كما‭ ‬أصبحت‭ ‬اللغة‭ ‬الإسبانية‭ ‬بالنسبة‭ ‬لكثيرين‭ ‬هي‭ ‬بوابة‭ ‬نحو‭ ‬العالم‭ ‬اللاتيني،‭ ‬وحلم‭ ‬الانتماء‭ ‬إلى‭ ‬فضاء‭ ‬أوسع‭ ‬من‭ ‬الجغرافيا‭ ‬المغربية‭.‬
 
وإذا‭ ‬كنا‭ ‬نفهم‭ ‬أن‭ ‬الانفتاح‭ ‬المغربي‭ ‬على‭ ‬إسبانيا‭ ‬يشكل‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬سياسة‭ ‬رسمية‭ ‬تراهن‭ ‬على‭ ‬الجوار‭ ‬والتبادل،‭ ‬وتعتبر‭ ‬أن‭ ‬معرفة‭ ‬لغة‭ ‬الجار‭ ‬ضرورة‭ ‬لا‭ ‬مناص‭ ‬منها،‭ ‬فإن‭ ‬ترك‭ ‬الحبل‭ ‬على‭ ‬الغارب‭ ‬لهذا‭ ‬الجوار‭ ‬والسماح‭ ‬له‭ ‬بالتهام‭ ‬الثقافة‭ ‬المغربية‭ ‬أمر‭ ‬يدعو‭ ‬إلى‭ ‬القلق،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬الطرف‭ ‬الإسباني‭ ‬لا‭ ‬يتعامل‭ ‬بالمثل‭. ‬فإسبانيا‭ ‬التي‭ ‬تحتضن‭ ‬جالية‭ ‬مغربية‭ ‬تتجاوز‭ ‬المليون‭ ‬نسمة،‭ ‬لا‭ ‬تلتفت‭ ‬إلى‭ ‬الكرة‭ ‬المغربية،‭ ‬ولا‭ ‬تعترف‭ ‬بأنديتها‭ ‬العريقة‭ ‬إلا‭ ‬بوصفها‭ ‬مشاتل‭ ‬خلفية‭ ‬لتكوين‭ ‬اللاعبين،‭ ‬لأن‭ ‬ما‭ ‬يشد‭ ‬نظرها‭ ‬هو‭ ‬«الأندية‭ ‬الأوروبية»‭ ‬القوية‭ ‬والمتنافسة‭ ‬معها‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬إسبانيا‭ ‬لا‭ ‬تعترف‭ ‬باللغة‭ ‬العربية،‭ ‬ولا‭ ‬تفسح‭ ‬لها‭ ‬مكانا‭ ‬في‭ ‬برامجها‭ ‬التعليمية‭. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬حزب‭ ‬«فوكس»‭ ‬اليميني‭ ‬المتطرف‭ ‬نجح،‭ ‬مؤخرا،‭ ‬في‭ ‬الدفع‭ ‬نحو‭ ‬إلغاء‭ ‬حصص‭ ‬تعليم‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المدارس‭ ‬الإسبانية،‭ ‬وذلك‭ ‬بمبررات‭ ‬إيديولوجية‭ ‬تعتبر‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬تهدد‭ ‬الهوية‭ ‬الإسبانية،‭ ‬وتشجع‭ ‬الإسلام‭ ‬المتطرف‭ ‬على‭ ‬قضم‭ ‬مساحات‭ ‬إضافية‭ ‬من‭ ‬السلم‭ ‬الوطني‭ ‬الإسباني‭.‬
 
إن‭ ‬هذا‭ ‬السلوك‭ ‬يعكس‭ ‬بوضوح‭ ‬تام‭ ‬خوفًا‭ ‬عميقًا‭ ‬من‭ ‬الآخر،‭ ‬ورغبة‭ ‬في‭ ‬إنكار‭ ‬حضوره‭ ‬الثقافي‭ ‬والتاريخي،‭ ‬كما‭ ‬يعكس‭ ‬في‭ ‬الوجه‭ ‬الآخر‭ ‬منه‭ ‬إحساسا‭ ‬بالعظمة‭ ‬والتفوق،‭ ‬مما‭ ‬يوضح‭ ‬أن‭ ‬التبادل‭ ‬الرياضي‭ ‬والثقافي‭ ‬بين‭ ‬الضفتين‭ ‬غير‭ ‬متكافئ،‭ ‬بل‭ ‬يكشف‭ ‬أن‭ ‬العقدة‭ ‬الاستعمارية‭ ‬متمكنة‭ ‬حتى‭ ‬أخمص‭ ‬القدمين‭ ‬من‭ ‬الجارة‭ ‬الإيبيرية‭.‬
 
تأسيسا‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬يمكن‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬التاريخ‭ ‬لتفسير‭ ‬هذا‭ ‬الخلل‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬صورة‭ ‬«المورو»،‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬الإسباني،‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬لحظة‭ ‬سقوط‭ ‬غرناطة،‭ ‬حين‭ ‬جرى‭ ‬تصوير‭ ‬المسلم‭ ‬القادم‭ ‬من‭ ‬الجنوب‭ ‬باعتباره‭ ‬الغريم‭ ‬الذي‭ ‬هدد‭ ‬الهوية‭ ‬الكاثوليكية‭. ‬ثم‭ ‬جاءت‭ ‬الحقبة‭ ‬الاستعمارية‭ ‬لتكرس‭ ‬هذه‭ ‬الصورة‭ ‬في‭ ‬الريف‭ ‬والصحراء‭ ‬المغربيين،‭ ‬حيث‭ ‬خاض‭ ‬الإسبان‭ ‬حربا‭ ‬لا‭ ‬هوادة‭ ‬فيها‭ ‬ضد‭ ‬المقاومين،‭ ‬استخدموا‭ ‬فيها‭ ‬الغازات‭ ‬السامة‭ ‬التي‭ ‬يعتبرها‭ ‬القانون‭ ‬الدولي‭ ‬«جريمة‭ ‬ضد‭ ‬الإنسانية»‭. ‬وبعد‭ ‬الاستقلال،‭ ‬لم‭ ‬تتغير‭ ‬الصورة‭ ‬كثيرا،‭ ‬إذ‭ ‬ظل‭ ‬المغربي‭ ‬يُقدَّم‭ ‬في‭ ‬الإعلام‭ ‬الإسباني‭ ‬بوصفه‭ ‬عامل‭ ‬يدويا‭ ‬أو‭ ‬«حراكا»‭ ‬أو‭ ‬متطرفا‭ ‬أو‭ ‬همجيا‭ ‬أو‭ ‬لصا‭.. ‬إلخ‭. ‬بل‭ ‬إننا‭ ‬حتى‭ ‬اليوم،‭ ‬تكفي‭ ‬أزمة‭ ‬سياسية‭ ‬بين‭ ‬مدريد‭ ‬والرباط،‭ ‬كما‭ ‬يكفي‭ ‬وقوع‭ ‬حادثة‭ ‬صغيرة‭ ‬معزولة‭ ‬يقف‭ ‬وراء‭ ‬وراها‭ ‬مغربي،‭ ‬لتعود‭ ‬كلمة‭ ‬«مورو»‭ ‬إلى‭ ‬الصفحات‭ ‬الأولى،‭ ‬مُحملة‭ ‬بكل‭ ‬معاني‭ ‬الاحتقار‭ ‬والازدراء‭ ‬والتمييز‭ ‬والعنصرية‭.‬
 
والحق‭ ‬أن‭ ‬المغاربة،‭ ‬الذين‭ ‬يستهلكون‭ ‬الثقافة‭ ‬الإسبانية‭ ‬بحماس‭ ‬شديد‭ ‬ودون‭ ‬أي‭ ‬أساس‭ ‬نقدي،‭ ‬سيصطدمون،‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬اطلعوا‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬ينشره‭ ‬الإعلام‭ ‬الإسباني‭ ‬بكل‭ ‬أنواعه،‭ ‬بصورة‭ ‬المغربي‭ ‬الهمجي‭ ‬والمتخلف‭ ‬التي‭ ‬تنعكس‭ ‬في‭ ‬أذهان‭ ‬الإسبان،‭ ‬كما‭ ‬سيكتشفون‭ ‬أن‭ ‬الافتتان‭ ‬بإسبانيا‭ ‬لن‭ ‬يمنحهم‭ ‬أي‭ ‬اعتراف‭ ‬كامل‭ ‬بثقافتهم،‭ ‬مما‭ ‬سيولد‭ ‬لديهم‭ ‬خيبة‭ ‬أمل‭ ‬قاسية‭ ‬من‭ ‬التفاؤل‭ ‬بالجوار‭ ‬أو‭ ‬التعاون‭ ‬المشترك‭ ‬أو‭ ‬الحوار‭ ‬الحضاري‭.‬
 
أمام‭ ‬كل‭ ‬ذلك،‭ ‬يفرض‭ ‬السؤال‭ ‬التالي‭ ‬نفسه:‭ ‬لماذا‭ ‬يصر‭ ‬المغاربة‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الانبهار‭ ‬بإسبانيا‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يأتيهم‭ ‬منها‭ ‬من‭ ‬احتقار؟‭ ‬الجواب‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬عدة‭ ‬عوامل:
أولا‭:‬‭ ‬ضعف‭ ‬السياسات‭ ‬الثقافية‭ ‬الوطنية‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تستثمر‭ ‬بما‭ ‬يكفي‭ ‬في‭ ‬الرياضة‭ ‬والفنون‭ ‬والإعلام،‭ ‬إذ‭ ‬هناك‭ ‬تغييب‭ ‬فاضح‭ ‬للرموز‭ ‬الوطنية‭ ‬القوية‭ ‬القادرة‭ ‬على‭ ‬شد‭ ‬انتباه‭ ‬الشباب،‭ ‬وإثارة‭ ‬حسهم‭ ‬الوطني‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إنجازاتها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المجالات،‭ ‬الرياضية‭ ‬والثقافية‭ ‬والعلمية‭ ‬والسياسية‭. ‬
 
ثانيا‭:‬‭ ‬تراكم‭ ‬الشعور‭ ‬بالنقص‭ ‬أمام‭ ‬الآخر‭ ‬الأوروبي‭ ‬الذي‭ ‬يُنظر‭ ‬إليه‭ ‬باعتباره‭ ‬نموذجا‭ ‬للتنظيم‭ ‬والحداثة‭ ‬والتقدم‭ ‬والنجاح‭ ‬والقوة،‭ ‬مما‭ ‬جعل‭ ‬المغاربة‭ ‬يسعون‭ ‬إلى‭ ‬استهلاك‭ ‬ما‭ ‬ينتجه‭ ‬الجار‭ ‬الشمالي‭ ‬دون‭ ‬الانتباه‭ ‬إلى‭ ‬الهوة‭ ‬السحيقة‭ ‬والساحقة‭ ‬بين‭ ‬الطرفين،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬التعلق‭ ‬يتحول‭ ‬تبعا‭ ‬لذلك‭ ‬إلى‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬هويته‭ ‬التي‭ ‬تبحث‭ ‬دائما‭ ‬عن‭ ‬التميز‭ ‬والارتقاء‭.‬
 
إن‭ ‬استمرار‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬غير‭ ‬المتكافئة‭ ‬التي‭ ‬يصنعها‭ ‬الانبهار‭ ‬بالآخر‭ ‬الإسباني‭ ‬يحمل‭ ‬مخاطر‭ ‬واضحة،‭ ‬لعل‭ ‬أخطرها‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬يتحول‭ ‬هذا‭ ‬الانبهار‭ ‬إلى‭ ‬استلاب‭ ‬تام،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬يفقد‭ ‬المغربي‭ ‬ثقته‭ ‬في‭ ‬ثقافته‭ ‬وإمكاناته‭ ‬وإنجازاته،‭ ‬فلا‭ ‬يرى‭ ‬نفسه‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مرآة‭ ‬المنجز‭ ‬الإسباني‭. ‬إذ‭ ‬يصبح‭ ‬الأمر‭ ‬عندئذ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مجرد‭ ‬تماس‭ ‬خاطئ‭ ‬مع‭ ‬الآخر،‭ ‬وإنما‭ ‬تبعية‭ ‬ثقافية‭ ‬تعيد‭ ‬إنتاج‭ ‬الهيمنة‭ ‬الاستعمارية‭ ‬بشكل‭ ‬جديد‭.‬
 
تأسيسا‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬المخاطر،‭ ‬يتعين‭ ‬على‭ ‬المغرب‭ ‬أن‭ ‬يستثمر‭ ‬في‭ ‬ثقافته‭ ‬ورموزه،‭ ‬كأن‭ ‬يقدم‭ ‬بدائل‭ ‬رمزية‭ ‬جاذبة‭ ‬لشبابه‭. ‬ففي‭ ‬الرياضة،‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تتحول‭ ‬البطولة‭ ‬الوطنية‭ ‬إلى‭ ‬منتج‭ ‬تنافسي‭ ‬حقيقي،‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬شد‭ ‬الانتباه‭ ‬وتسويق‭ ‬أسماء‭ ‬محلية‭ ‬تنافس‭ ‬عالميًا‭.  ‬أما‭ ‬في‭ ‬الفن،‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يجد‭ ‬المغاربة‭ ‬في‭ ‬أغانيهم‭ ‬وموسيقاهم‭ ‬وسينماهم‭ ‬ومسرحهم‭ ‬وفنونهم‭ ‬التشكيلية‭ ‬ما‭ ‬يفتخرون‭ ‬به‭ ‬كما‭ ‬يفتخر‭ ‬الإسبان‭ ‬بفنهم‭. ‬بينما‭ ‬علينا،‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الأدب‭ ‬والفكر،‭ ‬أن‭ ‬نعيد‭ ‬الاعتبار‭ ‬لرموز‭ ‬تركوا‭ ‬بصمة‭ ‬عالمية‭ ‬في‭ ‬ساحتنا‭ ‬الثقافية،‭ ‬مثل‭ ‬محمد‭ ‬شكري‭ ‬وفاطمة‭ ‬المرنيسي‭ ‬وعبد‭ ‬الكبير‭ ‬الخطيبي‭ ‬ومحمد‭ ‬برادة‭ ‬وعبد‭ ‬الفتاح‭ ‬كيليطو‭ ‬وعبد‭ ‬الله‭ ‬العروي‭ ‬ومحمد‭ ‬عابد‭ ‬الجابري‭.. ‬إلخ،‭ ‬بدل‭ ‬أن‭ ‬يظل‭ ‬هؤلاء‭ ‬في‭ ‬الهامش‭ ‬بينما‭ ‬يحتل‭ ‬الإسبان‭ ‬صدارة‭ ‬الاهتمام‭.‬
 
إضافة‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬يبغي‭ ‬على‭ ‬المدرسة‭ ‬المغربية‭ ‬أن‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬فضاء‭ ‬لصناعة‭ ‬الاعتزاز‭ ‬بالذات‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬التعليم‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬تلقين‭ ‬للمعارف،‭ ‬بل‭ ‬عنصرا‭ ‬حاسما‭ ‬لبناء‭ ‬وعي‭ ‬جماعي‭ ‬بتاريخه،‭ ‬من‭ ‬يوسف‭ ‬بن‭ ‬تاشفين‭ ‬إلى‭ ‬عبد‭ ‬الكريم‭ ‬الخطابي،‭ ‬مرورا‭ ‬بالمنصور‭ ‬الذهبي‭ ‬والمولى‭ ‬إسماعيل‭ ‬ومحمد‭ ‬بلحسن‭ ‬الوزاني‭ ‬ومحمد‭ ‬الفقيه‭ ‬البصري‭ ‬وعلال‭ ‬الفاسي‭ ‬والمهدي‭ ‬بنبركة‭ ‬وعزيز‭ ‬بلال‭ ‬وعبد‭ ‬الكريم‭ ‬غلاب‭ ‬ومحمد‭ ‬المختار‭ ‬السوسي‭ ‬وعباس‭ ‬الجيراري‭ ‬وابن‭ ‬المؤقت‭ ‬المراكشي‭ ‬وابن‭ ‬بطوطة‭.. ‬والقائمة‭ ‬طويلة‭.‬
 
على‭ ‬المستوى‭ ‬الرسمي،‭ ‬ينبغي‭ ‬على‭ ‬المغرب‭ ‬وضع‭ ‬سياسة‭ ‬ثقافية‭ ‬ملهمة‭ ‬وقائمة‭ ‬على‭ ‬الاعتزاز‭ ‬بالذات،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬المغرب‭ ‬ليس‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬الاكتفاء‭ ‬بتشجيع‭ ‬«المبادرات‭ ‬الثقافية‭ ‬البانية‭ ‬للجسور‭ ‬بين‭ ‬الضفتين»،‭ ‬بل‭ ‬إلى‭ ‬قوة‭ ‬ناعمة‭ ‬حقيقية،‭ ‬تستثمر‭ ‬في‭ ‬الرياضة‭ ‬واللغة‭ ‬والسينما‭ ‬والموسيقى‭ ‬والتعليم،‭ ‬لخلق‭ ‬صورة‭ ‬عن‭ ‬الذات‭ ‬أكثر‭ ‬جاذبية‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬الثقافية‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تدافع‭ ‬عن‭ ‬حضور‭ ‬الثقافة‭ ‬المغربية‭ ‬في‭ ‬الضفة‭ ‬الشمالية،‭ ‬وتعمل‭ ‬على‭ ‬فرض‭ ‬الاعتراف‭ ‬برياضيينا‭ ‬وأعلامنا‭ ‬ورموزنا‭.‬
 
صحيح‭ ‬أن‭ ‬العلاقة‭ ‬مع‭ ‬إسبانيا‭ ‬تظل‭ ‬ضرورية‭ ‬بحكم‭ ‬الجغرافيا‭ ‬والتاريخ‭ ‬والمصالح‭ ‬المشتركة‭. ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬لن‭ ‬تستقيم‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬تحرر‭ ‬الإسبان‭ ‬من‭ ‬عقدة‭ ‬«المورو»،‭ ‬مقابل‭ ‬أن‭ ‬يتخلى‭ ‬المغاربة،‭ ‬بوعي‭ ‬تام،‭ ‬وأن‭ ‬يعملوا‭ ‬على‭ ‬تحويل‭ ‬الانبهار‭ ‬إلى‭ ‬تبادل‭ ‬متكافئ‭ ‬من‭ ‬موقع‭ ‬الاعتزاز‭ ‬بالثقافة‭ ‬الوطنية‭ ‬في‭ ‬التعليم‭ ‬والإعلام‭ ‬والفن‭ ‬والرياضة،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬دعمها‭ ‬رمزيا‭ ‬في‭ ‬المناهج‭ ‬المدرسية،‭ ‬وتكريس‭ ‬حضورهم‭ ‬في‭ ‬البرامج‭ ‬الثقافية،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬تعزيز‭ ‬التبادل‭ ‬الثقافي‭ ‬على‭ ‬قاعدة‭ ‬الندية،‭ ‬ليصبح‭ ‬التأثير‭ ‬متبادلا،‭ ‬وليس‭ ‬حبا‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬واحد،‭ ‬لأن‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الحب‭ ‬يؤدي‭ ‬دائما‭ ‬إلى‭ ‬الشعور‭ ‬بالألم‭ ‬والحزب‭ ‬وانخفاض‭ ‬منسوب‭ ‬الثقة‭ ‬في‭ ‬النفس‭.‬
 
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من جريدة "الوطن الان"