Wednesday 24 September 2025
كتاب الرأي

جلال الطاهر: هل فقدت المحاكمة الجنائية مقوماتها!

جلال الطاهر: هل فقدت المحاكمة الجنائية مقوماتها! جلال الطاهر

من المعلوم أن المحاكمة القضائية مدنية أو جنائية، لها أسس وقواعد، ونصوص دستورية وقانونية، إجرائية وموضوعية، تؤطرها وتنظمها منذ أول إجراء، إلى آخر منطوق في الحكم النهائي في آخر درجات التقاضي بالحكم، الحائز على قوة الشيء المقضى به.

وتتميز المحاكمة الجنائية، بإجراءات مسطرية خاصة، نظراً لطبيعة نتائجها، وخاصة مساسها بالحرية الشخصية، وبمبدأ أن الأصل هو البراءة، والمرور من موقع مبدأ البراءة إلى الوصول في النهاية إلى تكريس وإقرار المس بهذا المبدأ بالإدانة، وهي مراحل دقيقة إن لم تكن عسيرة، تتطلب مواصفات، وضمانات مكرسة بنصوص دستورية وقانونية دقيقة.

والمحاكمة هي أهم مرحلة في هذه المسيرة الإجرائية التي تطبع المحاكمة العادلة، من انطلاق البحث التمهيدي، إلى المتابعة، إلى التحقيق والإحالة، إلى المنطوق.

ومادامت المحاكمة هي المرحلة الأخيرة، التي يصدر عنها الحكم، تحصيلا للمراحل السابقة، فلا بد أن تتميز بخصائص ذات طبيعة خاصة، وأهم هذه المراحل:

علنية الجلسة التي تجري فيها المحاكمة، حيث تعتبر الجلسة عمومية، مبدئياً يلجها كل مواطن، ويتعامل مع إجراءاتها بصفة مباشرة، ويستمع لكل ما يروج فيها، من استنطاقات للمتهمين، واستماع للشهود والخبراء... ومرافعات النيابة العامة، وكذلك دفوع الأطراف وممثليهم من المحامين، ومرافعات، أو ردود الأطراف بعضها عن بعض... والجدل بين النيابة والدفاع، وبين مكونات الدفاع نفسه، قد يرتفع أحياناً إلى الحدة...

هذا ما كان، وما يجب أن يستمر، لكن الواقع والممارسة، يبرز أن هذه الدينامية والأجواء التي كانت تشهدها المحاكمات الجنائية، في طريقها إلى التراجع، إن لم يكن التلاشي، مع الإشارة إلى أن بعض القضايا الجنائية يتمتع متهموها بكل الضمانات المسطرية، والوقت الكافي لنظر قضاياهم، ولو استمر ذلك سنوات.

وقد يتساءل البعض، ويستغرب الآخر، حول هذه المعاينة لتراجع خصائص المرافعة الجنائية الشفوية، وقد يذهب إلى أن هذا التراجع، هو مجرد زعم أو رأي شخصي.

لكن الجواب، يعلنه الواقع والممارسة، التي تجري فيها المرافعة، وأن التراجع المذكور، هو واقع يومي مشهود، ومعيش، ويكاد يصبح أمراً مسلماً به مبدئياً، من جميع أطراف المحاكمة الجنائية، والدفاع بصفة خاصة.

والسؤال المشروع الذي يطرح - والحالة هذه - هو ما هي أسباب الوصول إلى هذه الوضعية ؟ وهل هي حالة عادية، فرضها التطور الطبيعي للعدالة بصفة عامة، وضمنها المحاكمة الجنائية؟

إن هناك من يعتقد، بأن التغير الذي أصبح يشوب المحاكمة الجنائية، له أسباب موضوعية وأسباب ذاتية.

فالأسباب الموضوعية تتجلى في كثرة القضايا التي تعرض على القضاء الجنائي، التي بلغت من الناحية العددية، حالات استثنائية، من ذلك أن بعض هيئات محكمة الجنايات، تعرض عليها مائة قضية - إن لم يكن أكثر- في جلسة واحدة، فكيف يمكن النظر في هذه القضايا الجاهز منها في ظروف عادية، بكل مقومات المحاكمة العادلة، التي يمكن أن يصدر فيها حكم بالإعدام، أو السجن المؤبد، أو عقوبات طويلة الأمد.....

أمام هذا الضغط المهول، تضطر الهيئة القضائية، مهما كانت لها من قدرات التحمل، أن تلجأ إلى الاختصار في كل جوانب القضية- أهمها- مرافعات الدفاع.

هذا الدفاع، الذي بدوره تخلى عن مسؤولياته في مقاومة كل تقصير في القيام بواجبه، وأداء أمانة الدفاع التي قلد نفسه بها أمام الله، في القسم الذي أداه أمام القضاء، ويزداد الأمر سوءاً،

عندما تتعايش مجالس هيئات المحامين بنقبائها مع هذا الواقع الأليم، في حين، أنها أيضاً، مؤتمنة على تحمل مسؤولية، العمل على ضمان حقوق الإنسان عامة، وفي مقدمتها المحاكمة العادلة، التي قلد بها الله والدستور والقانون، القضاء بمكوناته المختلفة، حيث يبدو من خلال المتابعة والمعاينة، أن الكل قد استسلم للواقع، وتنازل عن الثوابت، بذريعة ليس في الإمكان أبدع مما هو كائن، هذا العذر أو الأعذار، قد يكون مقبولاً، باعتبار أن الجهة التي تتحمل المسؤولية الكبرى، هي الدولة بكل مؤسساتها الحكومية والبرلمانية والقضائية، المؤتمنة على توفير الإمكانيات البشرية والمادية والهيكلية، لضمان فعالية الآليات ومؤسسات الدولة المختلفة، بغاية القيام بمهامها ومواجهة مسؤولياتها، في ضمان كرامة الانسان المغربي، وفي مقدمتها توفير الإمكانيات لمواجهة احتياجات الانسان المغربي، وفي مقدمتها الكرامة، وليس هناك كرامة بدون محاكمة عادلة.

إن واقع العدالة المغربية، بكل مكوناتها يعيش وضعية صعبة، تتواصل سلبياتها دون توقف، وهو ما يدعو كل الفعاليات الحقوقية والثقافية والسياسية إلى الالتفات وبجدية لدراسة الإمكانيات المادية والبشرية، والتأطير الأخلاقي لتجاوز الوضعية الحالية، التي قد ينذر استمرارها بانعكاسات سلبية، قد تصعب مواجهتها.

في جميع الأحوال، فإن الواقع المعاين يوميا، في كل الجلسات الجنائية أو جلها، يجيب على التساؤل أو الإنكار للواقع بكل وضوح يوميا في الجلسات، أو جلها على الأقل، تلافيا للتعميم.

ومن ذلك على سبيل المثال عملية إجراء استنطاق المتهمين حول الأفعال التي تشكل موضوع متابعتهم واعتقالهم، وبتهم غليظة جداً وأحكام قاسية أحياناً.

ومع ذلك تجري عملية الاستنطاق في وقت وجيز، رغم أن بعض المتهمين يرغبون في عرض ملابسات القضية من كل وجوهها، غايتهم إبراز جوانب وملابسات الأحداث التي أوصلتهم للمحاكمة، والتي لم تتح لهم فرصة التعبير عنها، خلال مراحل المسطرة السابقة، لكن الغالب أن هذه الرغبة لا يستجاب لها بالقدر الكافي، ويزداد الأمر تعقيدا عندما يكون المتهم تتابع محاكمته بالوسائل التقنية عن بعد.

يضاف إلى ذلك، في الغالب أن محضر الجلسة لا يعبر في كثير من الحالات بأمانة حرفية عما راج بالجلسة، في حدود القضايا والواقع والأجوبة، والمضامين الجوهرية للدفوع الأولية، والمرافعات الموضوعية، التي يقدمها المحامي التي يبني عليها مرافعته، تأسيساً على الوقائع المتداولة سابقاً، وخاصة في الجلسة.

لأنه مادام أن بعض المحاضر تنجز بالصورة المذكورة أعلاه، والملفات والكثرة التي يبت فيها في آخر الجلسة غالبا، في غياب محضر الجلسة، ذي المواصفات المذكورة أعلاه، يصبح من الصعب على المحكمة أن تتذكر كل ما راج، ومضامين المرافعة الشفوية، في كل القضايا التي تتداول فيها، وبعد جلسات مرطونية، وفي ساعات متأخرة من الليل أحياناً، قد يقال بأنه تداركاً لعواقب هذه الصعوبات، أو التقليل من آثارها السلبية - على الأقل-  يمكن أن يعزز الدفاع مرافعاته بمذكرات مكتوبة، لكن هذا الاختيار نتائجه محدودة جدا في الواقع المشار إليه أعلاه.

وهكذا، يفاجأ المحامي في بعض الحالات، بغياب جل، إن لم يكن كل الدفوع المسطرية والموضوعية، التي أثارها في مرافعته، ولا جواب عليها في الحكم، لأنها لم تدون في محضر الجلسة أصلا، الأمر الذي يفوت فرصة البناء عليها في حالة الطعن بالنقض.

هذا الواقع، جعل بعض المحامين يتعاملون معه كأمر واقع وعاد، وأن من يرى غير ذلك، ويحاول أن يبذل جهداً لتلطيفه، أو التقليل من مضاعفاته، مجرد شخص حالم، يريد أن يقاوم الواقع الذي أصبح سائداً، يجب التعامل معه كما هو، إلا أن الأمر ليس كذلك، ذلك أن رسالة المحامي، ومسؤوليته عبر تاريخ المحاماة، هي مقاومة الواقع المختل في المجتمع، الذي تعكسه طريقة معالجة قضاياه المعروضة على القضاء، فهل التسليم بذلك اختيار راشد وتوجه سليم ؟ !.

أعتقد، أن قدر الإنسان بصفة عامة، هو مقاومة الخلل في الحياة بكل مظاهــــــــــــره، ولو سادت عقلية التسليم بالواقع كما هو، ما شهدت الإنسانية كـــــل هذا التقـدم المتواتر عبر العصور وما زال .....

إن هذا لا يعني، تحميل المسؤولية في تغيير واقع المحاكمة الجنائية، للقضاء أو المحاماة ... فقط، بل إنها إشكالية أسبابها متعددة، أهمها، الإمكانيات البشرية، والمادية، والبنية الحالية للمحاكم، وارتفاع نسبة الإجرام، وهي إشكالية معقدة، من مسؤولية الدولة، مواجهتها بحلول رشيدة، إذا توفرت الإرادة الحقوقية والإنسانية وما ذلك عليها بعزيز.

 جلال الطاهر،  محام بهيئة الدار البيضاء