هكذا ودعنا أستاذنا الفذ والرجل النبيل، وتحسرنا لفرقته مع الشلة التي تجمعنا كل جمعة صباحا ( تضم الإخوة سي محمد رونق، أحمد قابيل، عبد الله ورد، والمصطفى تكاني . ويحضرنــا كثيرا أستاذنا سي مصطفى العمري ؛ حسب ما تسمح به حالته الصحية ؛ وسي محمد بوتـنبات ؛ قبل انتقاله إلى القنيطرة، وتحضر أحيانا معنا مجموعة من الأصدقاء لموعد الجمعة ) . كان المجمع الثقافي يلمنا جميعا حول مستجدات الفكر والثقافة.
فارقنا أستاذنا الفاضل عن دنيا الحياة يوم الخميس 04 شتنبر 2025 سي محمد رونق ( محمد الدكالي )؛ بعد أن أبصر النور في مدينة سلا سنة 1937، وتلقى تعليمه الابتدائي بها في مدرسة النهضة ( كان المشرف عليها الأستاذ أبوبكر القادري ) ، وتابع دراسته الثانوية بمدارس محمد الخامس بالرباط ( حين كان المشرف عليها الأستاذ عثمان جوريو ). أتم دراسته في القاهرة لنيل شهادة البكالوريا المصرية ، واختار دراسة الفلسفة بكلية الآداب بجامعة القاهرة على يد كل من د. زكي نجيب محمود ، ود . عثمان أمين وغيرهما، مع ثلة من الأدباء والأساتذة المغاربة الذين جايلوه في تلك الفترة منهم : د . علي أومليل، وعبد الكبير الجوهري، وآخرين .
عند عودته إلى المغرب بدأ مسار تدريسه لمادة الفلسفة بمدرسة النهضة بمدينة سلا في أوخر خمسينيات القرن الماضي ( سنة 1959 )، وانتقل بعدها إلى الدار البيضاء خلال أوائل سبعينيات القرن الماضي بثانوية محمد الخامس لتدريس مادة الفلسفة في قسم البكالوريا. وشارك خلال تلك الفترة مع صديقه المرحوم الأستاذ عبد الكبير الجوهري في تأليف كتاب " الفكر الإسلامي والفلسفة " سنة 1968، وهو المؤلف الذي تم اعتماده للتدريس بمؤسسات التعليم الثانوي بالمغرب لسنوات طويلة ، وكان مرجعا أساسيا بها . وعمل بعد ذلك مكلفـا بالتفتيش التربوي لمادة الفكر الإسلامي والفلسفــة إلى حين تقــاعده ، وما عرف عن الأستاذ سي محمد رونق أنه يتعفف عن المناصب والمهام التي عُـرضت عليه ، فتعلق الفقيد فقط في حياته بحبه العميق للمطالعة والبحث . كانت صفة اسمه "رونق " فعلا له رونق في حديثه وعشرته وحياته، عشق الحياة وشغف بالفكر والثقافة، وكل ما يجره إلى الغنى الفكري، وإلى الأدب عامة، والشعر العربي خاصة، تطوف حوله تلك الكتب بهامات الفكر، وأخيلة الشعر، يسترجع معنا مرارا أبياتا من عيون قصائد الشعر العربي، ويطرب لما غنيت منها من كبار المطربات والمطربين، هكذا هو كما عرفناه نحن الذين عايشناه دهرا، فكنا نسترجع معه الكثير من الذكريات الجميلة بوفاء كبير لأصدقائه الذين يتعلق بهم ويتعلقون به ، إنه علوق مع عشق الثقافة والفكر أينما حل وارتحل .
نسترجع معه عاداته حين يلتحق بالشلة ( يوم الجمعة صباحا )، ننتظر مجيئه، وحين يصل إلى باب المقهى يحمل معه من مخبزة الحلويات اللصيقة بالمقهى قطعة حلوته المفضلة، ويمر عند النادل ليطلب منه فنجان قهوة بالحليب ويضع الحلوى مقطعة في صحن ، ثم يسلم واقفا كعادته على الشلة ليبدأ تحيته الأولى لي ، وإن كنت بعيدا عنه ، ليؤكد أن يبدا السلام بــ " الرئيس " ، كما يحلو له أن يناديني ، وبعد يسلم مع الصديقين : قابيل ، وورد ينعتهما بصفة : " العشير " ( أصدقاء العشرة لأساتذة الفلسفة ، أما أنا فأستاذ اللغة العربية ) . لنحضر معا جلساتنا الفكرية والثقافية . فيجلس أولا ؛ وبعد الجلوس يتناول صامتا قطع حلوته مع فنجانه ، وبعد انتهائه يرشف سيجارته الأولى ويكملها وهو ينفت دخانها بعيدا عنا .
اعتدنا طقوس جلسته الأولى ؛ وننتظر بعد ذلك بدء حواراتنا التي تدور أساسا حول مستجدات الكتب وأخبارها لنتداولها ، فنستعرض عناوين أهم الكتب ومحتوى فهارسها لتعرف أهم مضامينها . لقد كنا نتسابق ليقدم كل منا ما استجد من كتب ، أو لعرض أهم كتاب قرأه أحد أصدقائنا . لأن الفرق عندنا في الشلة ، والبون الشاسع الأساس يتمثل لدينا بين اقتناء كتاب ، وبين قراءته وتقديم أهم مضامينه .
في لقاءاتنا كان الأستاذ سي محمد رونق يحدثنا بشغف كبير حين نعرض لذكر بعض الأساتذة من الرعيل الأول ، فمنهم من عاش بينهم من مدينة سلا ؛ التي تعلق بها وبأهلها تعلقا صوفيا ؛ فيتحدث عن رجالاته ومفكريه وأصدقاء عمره حديثا نبيلا ، وحين يتحدث عن الدار البيضاء التي انتقل إليها ، وعن رفاقه من الأساتذة يتحدث عنهم حديث العالم المفكر بصفته التي عرفناها عنه ؛ عالم متضلع متواضع في علاقاته ، أحبه الجميع وكل من عرفه أو من سمع عنه ، خاصة من درس عنه في ثانوية محمد الخامس أو غيرها ( آمل أن يسجل ؛ على الأقل ؛ اسمه في إحدى قاعات ثانوية محمد الخامس عرفانا بفضله على التربية والتعليم بالمغرب ) .
ما سمعنا عنه ؛ في معرض الحديث ؛ أنه حين يتحدث عن العلاقة بين الفكر والثقافة وبين السياسة ؛ يرسم لهما خطين ليؤكد علاقة خط الإيمان بالفكري والعقدي ، وعلاقة خط السياسة بينهما ؛ أنهما خطان لا يلتقيان ( يوكد أهل الجبر والهندسة أن الخطين المتوازيين لا يلتقيان ، وأن الخط المستقيم هو أقرب مسافة بين نقطتين ) ، لكن المسافة بين خطي الفكر والثقافة وبين خط السياسة فعلا أنهما خطان لا يلتقيان ، أولهما مستقيم ، أما خط السياسة ملتوٍ وبه منعرجات كبيرة ، تبتعد مساحة الأول عن الثاني ، وهما لا يلتقيان ...
هذا هــو هم المثقف الذي تشرَّب بمعين الفكر الفلسفي، وأثرى به حياته، لإن قراءة أي كتاب جديد ؛ كما يقول الكاتب عباس محمود العقاد ؛ تعطينا قراءته حيوات جديدة من حيوات كل كاتب ولمؤلفه ، حياة الفرد تغنيه وتزيد حياته عمقا وبعدا إيجابيا للحياة . هذا هو هم الأستاذ سي محمد رونق ؛ عاش للفكر والثقافة ، ومات للفكر والثقافة . يفرح لقراءة أو عرض مضمون كتاب جديد ، وحين أعوزه النظر يطلب مَـنْ يقرأ له كتابا ؛ فيتمعن مضامينه بتؤدة ، وحين يقرأ له الأخ أحمد قابيل فصلا من كتاب جديد ، يطلب منه أن يضع ورقة لمكان القراءة كي لا تنسل صفحات أخرى عن صفحات الكتاب ، في انتظار متابعة فصل آخر في يوم قادم .
وأكثر ما يسره حين نقدم له نسخة خاصة لكتاب نفد . حين كان يخرج من منزله حيث يقطن بين ثانوية محمد الخامس بالدار البيضاء وحي الأحباس يتنقل بين المكتبات الواحدة تلو الأخرى ، وحين يتعبه التنقل يلقي بجسده وكتابه في مقهى موريطانيا أمام مكتبة دار الثقافة ، ليتجاذب الحديث والنقاش حول الثقافة والكتب مع زملائه وأصدقائه .
خلال الحديث عن ذكرى المئوية الثالثة لميلاد الكاتب " إمانويل كانط " ( 22 أبريل 1724 – 12 فبراير 1804 ) جلسنا مرة نتحدث عن فكره ومؤلفاته ، ومنها كتبه التربوية ، فكان هو المبادر ؛ لأن أول وأكبر همــه هو أن نستعرض بعضـاً من كتب المفكرين والأدباء . طلب منا الأستاذ سي محمد رونق أن يقدم كل واحد من أعضاء الشلة ( أحمد قابيل / عبد الله ورد / المصطفى تكاني ) وأن يعد ما تيسر من فكر " إمانويل كانط " ، وهو يعرف ما يعرفــه الإخـوة أحمد قابيل وعبد الله ورد عن فكر " كانط " ، وكان نصيبي إعداد مقال حول الفكر التربوي عند " كانط " ، فأنجزته خلال فترة وجيزة بعد قراءة ما كتب عن مجموعة من كتبه التربوية ، وهو مقال من 09 صفحات حول : " قراءة في كتابات إمانويل كانط حول التربية " ، تضمن المقال ما يلي : [ توطئة أولية لدواعي إعداد هذا المقال / عرض لمؤلفات كانط / تأطير كتاب " ثلاثة نصوص : تأملات في التربية – ما الأنوار ؟ - ما التوجه في التفكير ؟ ( 1779 – 1787 ) " / آراء كانط / ملخص مضامين نص : " تأملات في التربية ( أولا : الإنسان / ثانيا : التوسع / ثالثا : في التربية الجسمية / رابعا : في التربية العملية / خلاصة عامة .] وحين تم تقديم المقال له قرأت في عينيه الفرح والابتهاج ، وكأني أضع الخطوط التربوية الأساس لفكر " إيمانويل كانط " . هذا هو هم حياة الأستاذ سي محمد رونق المهووس بالثقافة والفكر .
تم تكليف مجموعة من الأساتذة في مختلف المواد الدراسية حسب كل مستوى دراسي وسلك تعليمي من قبل وزارة التربية الوطنية مع بداية عشرية القرن الحالي ؛ اشتغلت لجنة اللغة العربية ضمن لجنة تقويم الكتب المدرسية الجديدة برئاسة أستاذنا سي أحمد اليابوري ، وبعضوية الإخوة : سي محمد رونق ، عباس الصوري ، عبد الجليل ناظم ، محمد هنوش ، محمد ابريك ، عبد الغفار بلحسن الوالي ، إبراهيم الباعمراني ، والمصطفى تكاني ؛ قصد قراءة تقويمية لمجموعة من الكتب المدرسية ، وقد تم البدء في هذا العمل أول سنة من سنة 2002 إلى سنة 2008 ؛ من السنة الأولى الابتدائية إلى السنة الثانية بكالوريا ؛ وهي الكتب التي قررت الوزارة تعدديتها بعيدا عن الكتاب الواحد الذي كان معتمدا لسنوات طويلة . تقوم اللجنة بناء على توجهات الوزارة ؛ استنادا إلى توجهات ومواصفات محددة وفق كل مادة دراسية ومستوى دراسي ، يتم إعداد تقرير خاص بكل مشروع كتاب ؛ حيث ينجز كل عضو تقريره ويعرض نتائجه على أعضاء اللجنة ، ويحتد النقاش بموضوعية لاختيار أجــود مشاريع الكتب . كان الأستاذ سي محمد رونق يعد تقريره الإجمالي بدقة وإيجاز قوي ، نلتقي جميعا حول نتائج التقارير، وكأنه قرأ سلفا مضامين تقاريرنا الإجمالية ، إن له نظرة ثاقبة نقدية فكرية ؛ نحن أساتذة اللغة العربية وآدابها وهو أستاذ الفكر الإسلامي والفلسفة ؛ هذا هو الرجل العَـلَــم الذي يختار أسلوبه ونمط تعبيره . وحين نلتقي ؛ بعد ذلك بعد تقاعدنا ؛ في كل يوم جمعة مع الشلة ؛ كانت لي عند أستاذي سي محمد رونق مكانـــة خاصة فكريا واجتماعيا ، لنتآلف بيننا ومع أصدقائنــا وزملائنا ، فيحلــو له ؛ كما أسلفت ؛ أن ينعتـنــي بصفة " الرئيس " ، وما أنـــا برئيس أو مرؤوس ؛ هي لحظات عمر عشناها معه ، وستظل تعيش بيننا .
من بين الطرائف التي حكاها لنا أستاذنــا الجليل سي محمد رونق ، تغمده الله بواسع رحمته ، أنه بعد زواجه سافر في أول أيام شهر العسل ، مع زوجته وحماته ، إلى مدينة طنجة ، فأقاما في فندق غير بعيد عن وسط المدينة ، وحين كان يتنزه مع زوجته اقتنى حذاء أعجبه بقيمة 200 درهم . وبعدها خرج ليطوف وحده حول مركز المدينة أمام " سور المعاكيز " المطل على الضفة المواجهة لإسبانيا ، بمدافعه ، وجد عند أحد باعــة الكتب الموضوعة جنب السور كتابا كان يبحث عنه ، فتفحصــه ، وسأل عن ثمنه ، ولم يكن لديه ما يكفي من النقود لاقتناء هذا الكتاب، فطلب من صاحب الكتب أن يحتفظ له به إلى أن يأتي بالنقود . قال له البائع : " لا أضمن لك بقاء هذا الكتاب ، إذا اشتراه شخص آخر فهو للمشتري " . توسل إليه أنه سيعود فورا إليه في دقائق، ماذا فعل سي محمد رونق ترك حذاءه مرهونا لدى صاحب الكتب وسار حافــيا إلى الفنــدق بحثا عن النقود ، وعند وصوله إلى الفندق وقف عند المكلف بالاستقبــال وطلب منه أن يتصل بهاتــف غرفة زوجته ، آنذاك طلب منها أن تحمل معها إلى قاعة الاستقبال بجزء من النقود الموضوعة لديها . فقدمت له زوجته النقود ، مؤكدا لها أن سبب عدم صعوده إلى الغرفة لأنه حافي القدمين كي لا تراهما حماته . فرجع مسرعا إلى صاحب دكان الأحدية وسلم له النقود وأخذ الحذاء قافلا إلى زوجته وحماته بكتابه وحذائه .
هو حال الأستاذ سي محمد رونق مع الكتب والثقافة والفكر ، وما أخال أن يعيش مثل ما عاشه الأستاذ سي محمد رونق إلا من يعيشه مع الثقافة والفكر والكتب ، عاش بينها ومعها ، وكانت آخر توصيته لنا أنا والإخوة أحمد قابيل وعبد الله ورد، حين زرناه في بيته آخر جمعة قبيل وفاته ، أوصانا أن نكمل وصيته في تسليم آخر مجموعة من كتب خزانته ؛ المليئة بالكتب ؛ إلى خزنة كلية الآداب والعلوم الإنسانية ابن مسيك بالدار البيضاء ، هي حياته مع الثقافة والكتب ، فهي أنيسه وهي أليفه وهي اختياراته ، دعواتي له بالمغفرة والرحمة في كل حين .