Wednesday 3 September 2025
كتاب الرأي

محمد براو: النقد لا يعني التشويه: من أجل قراءة منهجية للشأن الديني في المغرب (6 من 6)

محمد براو: النقد لا يعني التشويه: من أجل قراءة منهجية للشأن الديني في المغرب (6 من 6) محمد براو

الرد السادس على الحلقة السادسة والأخيرة من سلسلة جريدة "لوموند": " لغز محمد السادس"

تمهيد

في 29 غشت 2025، نشرت صحيفة "لوموند" الجزء السادس والأخير من سلسلتها "لغز محمد السادس"، خصصته للعلاقة بين العاهل المغربي، الإسلام، والحركات الإسلامية.
إنه موضوع أساسي: فهم دور الملك كـ"أمير المؤمنين" يسلط الضوء ليس فقط على البنية السياسية المغربية، بل أيضًا على ديناميات السلطة، والإصلاح، والشرعية في سياق ما بعد الربيع العربي.

لكن أهمية الموضوع لا تكفي لضمان جودة المعالجة الصحفية. ففي هذه الحلقة الأخيرة، يبدو أن لوموند قد تخلّت عن متطلبات المنهجية الصارمة لصالح سردية محمّلة بتأويلات رمزية، وتقديرات سياقية غير دقيقة، وانحيازات ثقافية متكررة.
ولا يتعلق الأمر هنا برفض الحق المشروع في النقد، بل بالمطالبة بأن يحترم هذا النقد المبادئ المهنية التي تطبّقها لوموند، عن حق، على دول أخرى.

رؤية رمزية تُغفل المؤسسات

يفتتح المقال بمفارقة: الملك يوصي رعاياه بالتخلي عن أضحية عيد الأضحى، ثم يضحي بكبشين أمام الملأ. وبالنسبة لـلوموند، فإن هذا الفعل يكشف عن آلية للسلطة تجمع بين التقاليد، والسلطة، والعرض.

لكن هذا التفسير المفرط في الرمزية يجيز لنفسه الكثير دون أن يُبرهن على شيء جوهري.

فالوظيفة الدينية للملك لا يمكن اختزالها في مشهد طقوسي، حتى وإن تم تصويره.
بل إنها تنتمي إلى نظام مؤسساتي منظم يشمل:

- المجلس العلمي الأعلى

- معهد محمد السادس لتكوين الأئمة

- مؤسسة العلماء الأفارقة

وهي هيئات أُنشئت لتأطير الحقل الديني، وضمان استقلاليته عن التيارات المتطرفة، ولإيجاد توازن بين المذهب المالكي، والحداثة السياسية، والقوة الناعمة الإفريقية.

من خلال تجاهل هذا الإطار، تستبدل لوموند التحليل الواقعي بنهج جمالي: الإيماءات تُستَبدل بالنصوص، والصور تُقدَّم كأدلة.
وهذا يُضعف من القيمة التفسيرية للمقال.

سردية دينية متمركزة غربياً

إشكالية منهجية أخرى: التعامل مع الدين كأنه بقايا سلطة جامدة، غامضة، بل وحتى متخلفة.
يُلمح المقال إلى أن قدسية الملك تُستخدم لتجاوز مقتضيات الدستور، وتحييد اللعبة الحزبية، وإضعاف التعددية.

هذا النوع من التحليل يستند إلى تصور علماني وخطي للتطور السياسي، حيث يُنظر إلى أي تداخل بين الدين والسلطة على أنه مشبوه بطبيعته.

لكن الحالة المغربية تمثل نموذجًا هجينًا:
الملكية تُجسّد في الآن نفسه الاستمرارية التاريخية والإصلاح المؤسساتي.
دستور 2011 لم يُلغِ القدسية، بل أدرجها ضمن إطار قانوني واضح، إلى جانب الحريات الأساسية، وبرلمان منتخب، وحكومة نابعة من صناديق الاقتراع.

إنكار هذا التعايش هو تكريس لنظرة هرمية للعالم، لا تُعترف فيها إلا بالمسارات السياسية التي تتبع النمط الأوروبي للعلمنة.

الإسلام السياسي: فاعل سياسي منزوع التعقيد

فيما يتعلق بالإسلام السياسي، تتحدث لوموند عن "حرب استنزاف" يشنها القصر ضد حزب العدالة والتنمية، الذي تصدّر انتخابات 2011 ثم تراجع في 2021.

ويفترض المقال وجود استراتيجية واعية لتفويض القرارات غير الشعبية، واحتواء الحزب عبر الاستيعاب، ثم إبعاده تدريجياً.

لكن هذا التحليل يُغفل حقيقتين أساسيتين:

1- الديناميات الداخلية داخل حزب العدالة والتنمية، بما في ذلك التوترات الفكرية، فقدان المصداقية الانتخابية، والتنازلات الغامضة.

2- وجود تداول ديمقراطي حقيقي، يتمثل في انتقالات سلمية ومشاركة تعددية.

اختزال هذه العملية في "خطة استنزاف محسوبة" هو تجاهل لذكاء الناخب المغربي، ونسيان للقيود البنيوية التي تعاني منها الحركات الإسلامية في ممارسة الحكم.

حريات محدودة، لكن نقاش قائم

تشير لوموند، عن حق، إلى وجود حدود في مجال الحريات الفردية وحرية الضمير.
قضية الميراث، على وجه الخصوص، لا تزال عُقدة فقهية وتشريعية.

لكن المعالجة تفتقر إلى المنظور:
لا ذكر للنقاشات البرلمانية، ولا لمواقف المجتمع المدني، ولا لمراجعة مدونة الأسرة التي انطلقت في 2023.

ليس المقصود إنكار الصعوبات، ولا تجميل التوترات، بل ملاحظة أن المغرب يعيش مسار إصلاح داخلي، وفق وتيرته، ووفق توازناته الخاصة – حيث لا يُنظر إلى الدين بالضرورة كعائق، بل كإطار للتفاوض أحيانًا.

إصلاح الإسلام الأسري أو العبادي في ظل ملكية ذات شرعية دينية هو تحدٍّ معقد، لكنه تحدٍّ يعلنه الملك نفسه بشكل علني.

من أجل نقد صحفي بمستوى الموضوع

المغرب بلد في طور التحول. نظامه لا يُعدّ نموذجًا مكتملًا، ولا نظامًا جامدًا.
بل يسير بين القيود والطموحات، بين الجمود والإرادة، بين التقاليد والتعديلات.

وهذا ما يستوجب نقدًا صحفيًا صارمًا، ولكن أيضًا متزنًا، ومطلعًا، وحساسًا تجاه منطق السياق الداخلي.

النقد حق.
لكن الكاريكاتير سهل.
وحين تستبدل لوموند التحليل بالرمزية، والسياق بالصورة، والتعددية بالإسقاطات، فإنها لا تخدم قراءها.
ولا تخدم الصحافة.
ولا تخدم فهم المغرب.

في وقتٍ تُروى فيه قصص الجنوب غالبًا من منظور الشمال، حان الوقت لعكس العدسة، أو على الأقل، تصحيحها.

الرصد الواضح ليس قصة خيالية محبوكة.
بل هو تحقيق يعتمد على الوقائع، والأصوات المتعددة، والحقائق حتى وإن أربكت الأطر التحليلية المعتادة.

 

الدكتور محمد براو/ خبير دولي في الحكامة ومؤلف كتاب: "الحكامة الجيدة في ضوء التوجيهات الملكية"