Thursday 28 August 2025
كتاب الرأي

المريزق المصطفى: الحاشية السفلى بين الطريق الرابع وتمثيل "الناس اللي تحت" في روايات الأديب نجيب محفوظ 

 
 
المريزق المصطفى: الحاشية السفلى بين الطريق الرابع وتمثيل "الناس اللي تحت" في روايات الأديب نجيب محفوظ  المريزق المصطفى
في قلب المجتمعات العربية، حيث تتقاطع بنى السلطة والاقتصاد مع الإرث الكولونيالي وأنماط الهيمنة الثقافية، تتكوّن "الحاشية السفلى" من فئات وشرائح اجتماعية غير مرئية إلا عند الانفجار. هذه الفئات، المقصيّة، الصامتة قسرًا، المهمّشة بنيويًا، ليست مجرد "فقراء"، بل هي نتاج منظومة اجتماعية وبنية متكاملة من القواعد والمؤسسات والرموز والعلاقات، تتحكم في تنظيم المجتمع، وتؤطر ممارساته السياسية والاجتماعية، وتساهم في إعادة إنتاج الطبقات والتفاوتات والهيمنة. منظومة اجتماعية وسياسية تقسّم المجتمع إلى مركز وهامش، وإلى مواطنين من درجات متفاوتة.
 
ولعل المجتمع المصري، كما صوّره نجيب محفوظ، يقدّم مرآة شديدة الصدق لهذه التناقضات. فما كتبه محفوظ ليس أدبًا خالصًا، بل وثيقة سوسيولوجية تختزن مآسي "الناس اللي تحت"، أولئك الذين ينحتون الحياة من اللاشيء، ويصوغون ذواتهم وسط طوفان من الفقر والقهر والخذلان.
 
أولًا: في تعريف "الحاشية السفلى"
حين نتحدث عن "الحاشية السفلى"، فنحن لا نعني الفقر بمعناه الاقتصادي فقط، بل حالة الوجود على هامش الاعتراف. الحاشية السفلى هي:
1. من لا يملكون الصوت داخل الفضاء العمومي.
2. من تُدار شؤونهم دون استشارتهم.
3. من لا يملكون وسائل التعبير، ولا أدوات التحكّم بمصيرهم.
4. من تتحول أجسادهم إلى أدوات للكدح أو العنف أو الاستهلاك الرمزي.
 
إنها الفئات التي يتم استخدامها كأرقام في الحملات الانتخابية، أو كصورة في خطاب "العدالة الاجتماعية"، لكن دون تمكين فعلي أو دمج حقيقي ( وخاصة بالنسبة للشباب والنساء).
 
ثانيًا: المجتمع المصري كنموذج بنيوي للإقصاء
المجتمع المصري، في تحولاته الحديثة منذ بداية القرن العشرين، عرف تشكلا طبقيا معقدا، تخلّلته حركات مقاومة، وتمدين هش، وانفجار ديمغرافي، وصعود سلطوي مدجن. في هذا السياق، تشكّلت مساحات العطب الاجتماعي، التي نسميها الحاشة السفلى، في أحياء مثل "الجمالية"، "سيدنا الحسين"، "زقاق المدق"، و"بولاق"... وهي ليست مجرد جغرافيا وفضاءات عمومية وأحياء سكنية ، بل فضاء اجتماعي للانكسار والأمل المكبوت.
 
ثالثًا: نجيب محفوظ كمؤرّخ ل" اللي ساكن تحت"/ الحاشية السفلى
لم يكن نجيب محفوظ روائيا فحسب، بل كان عالم اجتماع بالأدب (Zola du Ni ) ، قدّم لنا عبر نصوصه تشريحًا دقيقًا للطبقات المهمشة. في أعمال مثل:
في "أولاد حارتنا":
استخدم نجيب محفوظ رمزية الحارة كمجتمع مغلق يمثل العالم، وفيه يبرز المهمَّشون كمحرّك للتاريخ والتغيير، رغم أنهم مقموعون من السلطة أو "الفتوات".
في "زقاق المدق"؛
 الزقاق رمز للتهميش المكاني والاجتماعي. سكانه يعيشون على هامش المدينة الكبرى، يحاصرهم الفقر والتقاليد، لكنهم يعكسون تحولات مصر الحديثة.
 
في "الثلاثية":
 التهميش ليس فقط نتيجة للفقر، بل نتيجة لتركيبة اجتماعية معقّدة، تتداخل فيها السلطة، العائلة، الدين، الجنس، والطبقة. والهامشيون فيها، سواء كانوا نساءً أو فقراء أو مثقفين تائهين، هم مرآة للاضطراب العميق في المجتمع المصري آنذاك.
في "بداية ونهاية":
 
يتناول فيها نجيب محفوظ، التهميش بأسلوب واقعي حاد، من خلال أسرة فقيرة في حي شعبي في القاهرة، تنهار طبقيًا بعد وفاة الأب، فتبدأ صراعات البقاء والكرامة. أي حينما يسقط "حسنين" في وهم الصعود الطبقي، فيدمّر أسرته ويضيع.
أما فية"الحرافيش":
 
 فهي "مانيفستو" أدبي للحياة في أسفل السلم الاجتماعي، حيث تُصاغ الأسطورة من حكايا البسطاء.
محفوظ لم يُعطِ لهؤلاء صوتًا فقط، بل كشف آليات التواطؤ البنيوي بين السلطة والجهل والفقر في إعادة إنتاج الهامش.
 
 
رابعًا: "الطريق الرابع" كأفق للتحرر
في ظل انسداد الأفق السياسي التقليدي، وفساد العديد من المؤسسات، واغتراب المواطن عن دوائر القرار، والاستبعاد الاجتماعي في كل تجلياته، يقترح الطريق الرابع كما قدمناه في العديد من المناسبات، استراتيجية بديلة للتحرر تنبع من صلب الهامش، لا من نخبته.
فما هو الطريق الرابع؟
 سنواصل، من خلال جميع مساهماتنا، تقديم إجابات متجددة على هذا السؤال الجوهري، استجابةً لتساؤلات العديد من المتتبعين والمهتمين الصامتين!
هو مشروع تحرري لا مركزي، يقوم على:
1. الاعتراف بالهويات الهشة والمنسية في الحقول الثقافية والاجتماعية.
2. بناء ديمقراطية اجتماعية من تحت، تقطع مع الشعارات الفوقية الفارغة ومع وصاية الفعل السياسي التقليدي.
3. تمكين الفاعلين المحليين، من الشباب والنساء والحرفيين والمعطلين، من التعبير والفعل.
4. تجاوز الانقسام الأيديولوجي العقيم بين اليمين واليسار، من أجل عدالة قائمة على التجربة الميدانية الحية لا على الإيديولوجيا.
 
بهذا المعنى، لا يمكن إخراج الحاشية السفلى من عزلتها إلا من خلال مشروع مثل "الطريق الرابع"، الذي يتأسس على تفكيك بقايا الاقطاع والاستبداد الرمزي، وبناء ثقافة الاعتراف والكرامة من القاعدة.
أما عند نجيب محفوظ، "اللي ساكن تحت" /الحاشية السفلى".. ليست مجرد خلفية اجتماعية، بل هم الفاعلون الحقيقيون في دراما الحياة المصرية. صوّرهم بدقة، ورفعهم من الهامش إلى مركز الرواية، كاشفًا تناقضات المجتمع والسلطة والتاريخ.
 
في الختام ولكل المتعاطفين/ت مع الطريق الرابع، أقول: 
إن قراءة المجتمع من أسفله، كما فعل نجيب محفوظ، وكما تسعى السوسيولوجيا النقدية لفهمه، تكشف أن التحوّل الاجتماعي الحقيقي لن يكون إلا من داخل الهامش، لا من فوقه.
و"الطريق الرابع"، بما هو دعوة للتحرير من التبعية والتكلّس السياسي، يقدم جوابا عمليا على سؤال: كيف نجعل من "الحاشية السفلى" فاعلا تاريخيًا، لا مجرد ضحية سردية؟
فلنُصغِ إلى صمت المهمّشين، ولنفتح معهم طريقًا رابعًا، لا يقود إلى المركز.
المريزق المصطفى ، مؤسس الطريق الرابع