Thursday 28 August 2025
كتاب الرأي

نعيمة بنعبد العالي: ماذا يقول الذكاء الاصطناعي عن مستخدميه؟

 
 
نعيمة بنعبد العالي: ماذا يقول الذكاء الاصطناعي عن مستخدميه؟ نعيمة بنعبد العالي

نطرح أسئلتنا على الذكاء الاصطناعي كل يوم. لكن خلف هذه الأسئلة، هو الذي يتكلم عنّا: عن نقائصنا وتناقضاتنا، عن حلمنا بالسرعة وحاجتنا إلى الإصغاء. يستند هذا النص إلى استبيان استكشافي وإلى مشاهد متعددة من استعمال الذكاء الاصطناعي في أنحاء مختلفة من العالم. الأصوات التي سُمعت — مديرون مستعجلون، طلاب في بحث عن الوضوح، شعراء يفتشون عن صدى — ترسم معًا صورة جماعية. ويظهر الذكاء الاصطناعي هنا على الأقل كأداة، و على الأكثر كمرآة: يكشف رغبتنا في الوقت والكلمة والمعنى. هذه القراءة ليست إحصائية، بل رمزية وثقافية، تعكس زمنًا يتأرجح بين السرعة والحاجة إلى الحميمية.

 

مقدمة

منذ ظهوره في الفضاء العام، يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي المحاور تارة كأداة، وتارة كمساعد، وأحيانًا كرفيق. وقد تكاثرت الخطابات التي تحلل ما يقوله الذكاء الاصطناعي عن العالم، عن المعرفة، عن مستقبل العمل أو الإبداع. لكن من المفيد بالقدر نفسه أن نتساءل: ماذا يقول عن مستخدميه أنفسهم؟

فالذكاء الاصطناعي لا يقدّم أجوبة وحسب. كل طلب يُوجَّه إليه، سواء أكان دقيقًا أم غامضًا، وظيفيًا أو شاعريًا، يشكّل أثرًا. وإذا جمعنا هذه الآثار ظهرت ملامح صورة جماعية: صورة بشر يكشفون، من خلال مخاطبتهم للآلة، عن رغباتهم ونقائصهم وتناقضاتهم. انطلاقًا من استبيان استكشافي، مدعوم بملاحظات حول الاستخدامات في مناطق مختلفة من العالم، نحاول هنا أن نجيب: ماذا نتعلم من الذكاء الاصطناعي عن الذين يسألونه؟

 

1. تنوع الاستعمالات، لكن بدوافع متلاقية

تكشف الإجابات عن تنوع في الملفات الشخصية للمستخدمين:

  • في أميركا الشمالية، يغلب الهمّ العملي: الأساتذة، المستشارون، الموظفون يطلبون ملخصات سريعة، مسودات للرسائل الإلكترونية، أو خططًا للحجج. الذكاء الاصطناعي هنا مسرِّع للإنتاجية.
  • في آسيا، يتركّز الاستعمال على التعليم والتعلّم. الطلاب يلجؤون إليه لشرح قانون فيزيائي، لتصحيح لغتهم الإنجليزية، أو للتحضير لامتحان. الذكاء الاصطناعي يصبح معلّمًا افتراضيًا.
  • في أوروبا وأميركا اللاتينية، يبرز الجانب الإبداعي: الشعر، السرد، الترجمة الأدبية، التأمل الفلسفي. الذكاء الاصطناعي هنا ورشة كتابة ومرآة جمالية.

 

ولا يكتمل هذا المشهد العالمي من دون النظر إلى التجربة العربية، حيث يبرز حضور اللغة والإبداع والهوية في تفاعل المستخدمين مع الذكاء الاصطناعي.  .هنا يبرز تميّز خاص في هذه العلاقة. فاللغة تحتل موقعًا مركزيًا: كثيرون يختبرون قدرته على توليد العربية الفصحى أو ترجمة النصوص بين العربية واللغات الأخرى، ويكتشفون حدوده في التعامل مع اللهجات أو مع البلاغة الكلاسيكية. كما أن البُعد التعليمي حاضر بقوة، إذ يُستعان به لتبسيط المفاهيم العلمية أو إعداد الدروس. وإلى جانب ذلك، يكشف الاستخدام العربي عن حسٍّ أدبي وشعري متجذّر، حيث يُوظَّف الذكاء الاصطناعي في إعادة ابتكار القصيدة أو الأمثال. غير أن بعض المستخدمين يعبّرون عن رغبتهم في رؤية ثقافتهم ممثلة بصورة أوسع، بعيدًا عن الهيمنة المرجعية الغربية. وهذا ما يعكس حاجة مزدوجة: الاستفادة من أداة كونية، وفي الوقت نفسه البحث عن صدى للهوية والذاكرة العربية داخلها.

 

ورغم هذه الفوارق الإقليمية، تتلاقى الدوافع الكبرى:

  1. كسب الوقت (تلخيص، تصحيح، توضيح).
  2. التعبير عن الذات (إبداع، كتابة، اللعب باللغة).
  3. الحاجة إلى الإصغاء (محاور صبور، لا يحكم)

 

2. اللغة كتعلم ضمني

من الملامح اللافتة: صعوبة البداية في صياغة الطلب. كثيرون يبدؤون بعبارات مبهمة: «اشرح لي هذا»، «تابع»، «لخص». في البداية يُعامل الذكاء الاصطناعي كلوح سحري يفهم من تلقاء نفسه.

لكن الاستعمال المتكرر ينتج منحنى تعلّم واضح:

  • المبتدئ يصوغ بطريقة غامضة.
  • المتوسط يتعلّم أن يحدد النبرة، الطول، الأسلوب.
  • المتقدّم يطوّر أسلوبًا شخصيًا، شبه حواري: «امنح هذا النص أجنحة»، «اجعله أكثر التباسًا مثل قصة لكارفر».
  • الخبير يتحدث إلى الذكاء الاصطناعي كما لو كان زميلًا مألوفًا، بطلبات قصيرة لكنها فعّالة.

بهذا المعنى، يكشف الذكاء الاصطناعي علاقتنا باللغة: نحن نتعلم أن نفكر بوضوح أكثر لأننا نتعلم أن نقول بوضوح أكثر.

 

3. التناقضات التي يكشفها

تكشف الإجابات أيضًا عن سلسلة من المفارقات:

  • البعض يطلب ملخصًا «قصيرًا جدًا لكن يحتوي كل التفاصيل».
  • البعض يريد تحليلاً «محايدًا لكنه مثير».
  • آخرون يطلبون نصًا «واضحًا لكنه شاعري».

هذه المفارقات تعكس رغبات مستحيلة: نريد الجمع بين الفعالية والعمق، بين البساطة والإلهام، بين الحياد والعاطفة. والذكاء الاصطناعي، في محاولته تلبية هذه المطالب، يسلط الضوء على تعقيد توقعاتنا.

كما يعكس ازدواجية اجتماعية: كثيرون يفضلون محادثته بدل زملائهم لأنه لا يقاطع، لا يحكم، ولا ينافس. لكنه، في المقابل، يبقى محايدًا أكثر مما ينبغي: لا يقدم جدالًا مثمرًا ولا طاقة عاطفية حقيقية مثل البشر.

 

4. الانحيازات ووهم الحياد

من المثير أن كثيرًا من المستخدمين أصبحوا واعين بالانحيازات. الأميركيون يشيرون إلى غلبة المرجعيات الغربية. الآسيويون يلاحظون ضعف التعمق في تقاليدهم الفلسفية. والأفارقة يذكّرون بفقر الأمثلة المحلية في قواعد البيانات.

الذكاء الاصطناعي، لأنه يتعلّم من بيانات تهيمن عليها بعض اللغات والثقافات، يعكس خللًا بنيويًا. لكن كثيرين يتعاملون معه كـ«صوت من بين أصوات»، فيوازنونه بمصادر أخرى. وهذا يكشف مرة أخرى رغبتنا في الحياد، مع قدرتنا على التعايش مع النقص.

 

5. ما يكشفه في العمق

في النهاية، ما يقوله الذكاء الاصطناعي عن مستخدميه ليس صورة ثابتة، بل مرآة متحركة. إنه يكشف نقائصنا:

  • الخوف من الأحكام،
  • التعب من الأثقال الاجتماعية،
  • صعوبة التعبير الدقيق.

ويكشف أيضًا غنانا:

  • قوة الخيال،
  • الفضول اللامحدود،
  • الحاجة إلى الحوار والإصغاء.

مدير أميركي يطلب: «لخص في خمس نقاط واضحة»، طالبة هندية تكتب: «اشرح لي التمثيل الضوئي كأن عمري 12 عامًا»، شاعر فرنسي يريد «أن يمنح نصه أجنحة» — جميعهم يشتركون في سعي واحد: كلمة تنير، ترافق، وتحوّل.

 

خاتمة

لا يصفنا الذكاء الاصطناعي كما يفعل عالم الاجتماع أو علم النفس. لا ينتج فئات ثابتة ولا تشخيصات نهائية. لكنه يعكسنا في حركاتنا اللغوية، في تردداتنا واندفاعاتنا. يقول إننا نبحث عن الوقت، عن الوضوح، عن الإصغاء، عن المعنى. يقول إننا نريد أن يُفهَم كلامنا بلا حكم، وأننا في حاجة دائمة إلى الخلق المشترك، حتى مع آلة.

إن طرح سؤال «ماذا يقول الذكاء الاصطناعي عن مستخدميه؟» يعني القبول بأن هذه المرآة ليست محايدة، لكنها كاشفة. إنها لا تعرض حقيقة واحدة، بل تذبذبًا دائمًا: بين الفعالية والعمق، بين العزلة والحوار، بين الحياد والعاطفة. ولعل هذا هو أقوى إسهامها قيمة: إنها تكشف، من خلال علاقتنا بها، تعقيد ما نحن عليه.

الذكاء الاصطناعي لا يتحدث عن العالم فحسب، بل يتحدث عنّا من خلال كلماتنا نحن. هذا النص دعوة إلى النظر في مرآة الكلمات التي نوجّهها إلى الذكاء الاصطناعي، والتعرّف فيها على وجوهنا نحن. مرآة بلا عين، لكنها ممتلئة بأصواتنا.