في فضاء الملتقى الوطني لليافعين، وتحديدا في ليلة صيفية دافئة تزينها نسمات أكادير، كان للثقافة الأمازيغية موعد مع الفرح والاحتفاء. فقد استقبل الملتقى واحدة من أرقى التجارب الغنائية في المغرب، ممثلة في مجموعة بنات إزنزارن، بقيادة الفنان الكبير الرايس عمر حدادي، أحد الأهرامات التي طبعت الذاكرة الموسيقية الأمازيغية بفيض إبداعها.
ظهرت المجموعة في حلة بديعة وهي مزينة بالزي الأمازيغي الأصيل، تتلألأ الألوان الزاهية وتتماوج الحلي الفضية على إيقاع الأضواء، وكأن الحضور أمام لوحة تراثية تنبض بالحياة، تترجم جمالية الانتماء وتختزل تاريخا ممتدا في وجدان الأرض والإنسان.
انطلقت السهرة الباذخة على إيقاعات أغنية "مي حنا"، أيقونة مجموعة إزنزارن، التي تسكن وجدان جيل بأكمله. وما إن صدحت الأصوات النسائية العذبة بها حتى غمر الحماس قلوب اليافعين، فارتفعت الأيدي بالتصفيق، وتمايلت الأجساد في تناغم بديع مع نقرات البنذير وإيقاعات الستتير ودندنات الهجهوج التي حملت معها عبق السهول والجبال وسحر الأطلس الكبير. كان المشهد أشبه بعناق بين أجيال مختلفة، يلتقي فيها الماضي بالحاضر في لحظة صفاء نادرة تعيد الأرواح إلى صفائها المتجلي في عذوبة الفن وجماله اللا متناهي .
توالت بعد ذلك باقة من الروائع التي أحيت رصيد إزنزارن، في توليفة موسيقية غنية بالتنوع والإبداع. الأغاني انسابت في فضاء القاعة المؤثثة بعناية، وكأنها خيوط نور تربط بين الحضور، تثير فيهم الذكريات وتفتح أمامهم آفاق التأمل. فالقصائد التي أنشدتها المجموعة كانت شذرات من الذاكرة الشعبية الأمازيغية، تحمل معها صور الأرض، وعذوبة المحبة، ونداءات الحرية.
وفي صورة جمالية نادرة، امتزج صوت اليافعين بروح اللحظة، إذ ارتفعت حناجرهم مجتمعة على طريقة "بودشار"، مرددين الأغاني الوطنية الخالدة مثل "صوت الحسن ينادي" و "العيون عينيا"، قبل أن ينسابوا في أجواء من الحماس مع أشهر أغاني ناس الغيوان، التي أشعلت المكان دفئا وحماسة.

كان المشهد أشبه بكرنفال وجداني يربط بين عبق التاريخ وقوة الحاضر، بين تراث الأغنية الوطنية وروح الالتزام الفني التي ميزت أجيالا بكاملها.
كانت السهرة درسا بليغا في الاحتفاء بالهوية المغربية من خلال هذا التواصل الثقافي الجميل. لقد جسد اليافعون، من خلال تجاوبهم البديع مع مجموغة بنات إزنزارن و الرايس عمر حدادي، مدى تعطش الجيل الجديد لاكتشاف كنوز الأغنية الأمازيغية التي أسست لمدرسة قائمة بذاتها، مدرسة تجمع بين الأصالة والالتزام، وبين التحدي والفرح.
على مدى ساعتين كاملتين، ظل المسرح ينبض بالحياة. فبين الأغنية والأخرى، كان الحضور يعيش لحظات انخطاف موسيقي، يتنقل فيها من التغني بالحرية إلى الفرح الجماعي، ومن نداءات الهوية إلى انشراح الذاكرة المشتركة. في لحظة ما، خيل للجمهور أن أرواح الغيوانيين تحضر إلى جانب نفس إزنزارن، في امتداد طبيعي لمسار الإبداع الجماعي الذي اختار أن يجعل من الكلمة الصادقة والجذبة الموسيقية وسيلة للبوح والمقاومة.
لقد شكلت الأمسية لوحة فنية مكتملة الأركان: موسيقى صادقة، أداء بديع، زي أمازيغي أصيل يترجم الهوية، جمهور متفاعل، ورسالة عميقة مفادها أن الأغنية الأمازيغية ذاكرة وهوية واحتفاء بالإنسان. ومن خلال هذه السهرة، أثبت الملتقى الوطني لليافعين أنه لا يقتصر على التربية والتكوين فحسب، بل هو أيضا جسر نحو الفعل الثقافي العميق، وفضاء للقاء الأجيال حول معاني الفن الراقي.
في ختام الأمسية، كان الجمهور ما يزال متعطشا للمزيد، والابتسامة مرسومة على وجوه اليافعين الذين غادروا المكان وهم يحملون في ذاكرتهم تجربة استثنائية ستظل عالقة في وجدانهم، كبرهان حي على أن الموسيقى الأصيلة قادرة على أن تفتح القلوب وتعيد صياغة الأمل في المستقبل.
