Wednesday 13 August 2025
فن وثقافة

العربي وافي: عن رواية قبل الموت بقليل

 
 
العربي وافي: عن رواية قبل الموت بقليل غلاف الروية
من المعروف أن التجربة الأولى التي يخوضها كاتب أو كاتبة في مجال الرواية تكون حاسمة ومصيرية في مساره الإبداعي، فإما أنها تخلد إسم الكاتب أو الكاتبة في أرشيف الإبداع وفي أذهان القراء أوتهوي به في غياهب النسيان. أما كاتبتنا فاطمة ياسين التي تخوض هذه التجربة لأول مرة، فقد توفقت في إبداع عمل روائي يستحق التنويه على أكثر من صعيد، أعني بذلك روايتها البديعة "قبل الموت بقليل" ذات الحس التراجيدي الملفوف بلغز محير قد يظل القارئ يلهت بحثاً عن حله دون طائل؛ مما يجعله يتسائل هل يتعلق الأمر بموت عادي أم بقتل أم بانتحار.
ذلكم كان مصير "عبدو" الموظف بإحدى المصالح الحكومية والذي كان يتعرض للتضييق والتنمر بمختلف أشكاله من قبل رئيس المصلحة؛ لكن "الضحية" إذ وجب أن نسميه كذلك، سيترك رسالة لصديقته "حياة" الموظفة هي الأخرى بإحدى المصالح الحكومية، كما سيودعها مذكراته التي "ستغذي" الرواية بالأحداث والمفاجئات بل باللغز المحير الذي سيخلفه "عبدو" وراءه... "ذات زوال من سنة 2004 توصلت بملف ورقي مغلق، كتب عليه إسمي بخط، ما إن رأيته حتى خفق قلبي، وأرتجفت كل أعضائي من شدة الدهشة. قيل لي أن سيدة من معارفي وضعته بمكتب الاستقبالات وانصرفت بعد طول انتظار...وقفت لهنيهة شاردة، أقلب الملف بين يدي... من تكون هذه السيدة؟ وكيف وصل هذا الملف بين يديها ، وهو يحمل إسمي، بخط يد طالما ضغطت على يدي، حانية أو مشجعة أومطمئنة. وما علاقة هذه السيدة به، أقصد بصاحب الملف."
الذي يسترعي انتباهنا كقراء- في هذا السياق- هو المناخ الذي تخلقه الكاتبة، أي المناخ النفسي الذي يجعل القارئ يشعر بأن الرواية امتداد لسيرة " عبدو" التي دخلها أو بعبارة أخرى أدخلته الكاتبة لها ضمن نسيج الحكي الروائي؛ إذ تصبح أحداث الرواية وكأنها امتداد لسيرة يعرفها أو كأنه يعرف جزءاً منها وبالتالي له علاقة بها. هذه "تقنية" متداولة لدى بعض كتاب الرواية ولدينا كمثال عنها رواية "سمرقند" لأمين معلوف.
تجدر الإشارة أننا لا نعتزم أن نحكي أحداث الرواية، تاركين ذلك لعناية القارئ كي لا نفسد عليه لذة الاندهاش -وما أوفرها !- حسبنا أن نذهب للقصد من هذه القراءة؛ مشيدين بالدرجة الأولى ببعض السمات التي وسمت العمل الروائي بميسمها الخاص.
على رأس هذه السمات اللغة الأصيلة والراقية التي اشتغلت عليها الكاتبة، وتوفقت في ذلك باستخدام وتطويع لغة واصفة بليغة ودقيقة تفيد المعاني التي تتقصدها، فضلا عن الاستعارات الموحية والمدهشة، ذلك أن لغة الحكي لا تدعي كونها اللغة الواحدة الممكنة، بل هي بديل ضمن بدائل أخرى، على أنها تظل مع ذلك اللغة المنجزة التي تمنح نسغ الحياة للرواية وتقدمها في صيغتها الحية وعنفوانها، أي في عملية تكوينها وتجددها، حيث تكتسب ظلا وثقلا وكثافة متميزة.
كما اشتغلت الروائية بفنية عالية على الأحداث التي ما تكاد ترسم على الورق حتى تمتلك، استقلالها بمعنى من المعاني، ومن ثم لا بد أن تؤثر على الشخصيات، بأن تجعلها تنفعل وتتفاعل ضمن مناخ تتنفس فيه الرواية بحرية بما أنها تكتسب جذوراً تمتد عميقاً في أديم المجتمع.
أما الشخوص الذين اصطنعتهم الكاتبة وهم موضوع الرواية وفاعلوها الرئيسيون فإنها ما تكاد ترى النور، وتتنفس المحيط الذي تنغمس فيه حتى تبدأ بالتكوين ضمن شروطها الخاصة، وكأنها بعثت حية تسعى، مما يترك في خلد القارئ إنطباعاً بأن الكاتبة تروي قصة حقيقية، أو ليس أعذب الأدب "أكذبه"؟
لابد كذلك من التنويه "بالتكنيك' الراقي الذي اختارته الكاتبة لاصطناع وحكاية خيبات "عبدو" مع الإدارة والمديرين، والذي يقوم على تقنية الاستبطان l’introspection التي تقوم عليها كتابة المذكرات التي تصف بنوع من الحميمية والشفافية المعيش الخاص بل المعاناة التي كابدها "عبدو" مع رؤسائه داخل الإدارة، خصوصاً تلك المقاطع التي تصف معاناته باعتباره شابا مثقفاً تجاه رؤساء شبه أميين ومتسلطين فضلا عن ذلك. ذلكم فضح سافر لأحد أمراض الإدارة البيروقراطية التي تفترس الأطر الشابة الكفؤة مقابل الإعلاء من الأطر المترهلة وغير المنتجة. (والرواية على هذا المستوى معين زاخر بالمعلومات النفيسة لمن أراد دراسة دواليب الإدارة وأسقامها.) " إن مصدر قوة الرواية الرئيسي يكمن في قدرتها على زيادة وعينا دون أن تضللنا" على رأي بول وست، وهذا ينطبق على العمل الروائي الذي نحن بصدده.
هكذا يعمل عبدو على تشخيص أعطاب الإدارة كشاهد حي يرزق والحال أنه قد انتقل إلى العالم الآخر، تاركاً شهادته في ذمة "حياة" وفي ذمة القراء: "دقة الوصف أثارت فضولي وزادت من حماسي، لا أحد هنا غيرنا، أنا الميتة وهو الحي. أنا الوعاء الفارغ الذي ينتظر الامتلاء، وهو القطر والرواء. انتقلت إلي مرارة إحساسه بالإحباط والخيبة، رغم كل هذه السنين. من خلال قلمه الذي تحول إلى كاميرا تترصد الخطى وتسجل الحركات، تقبض عليها حية لتديم وجودها: "عندنا لا الموظفون متشابهون ولا المسؤولون متشابهون ولا المكاتب متشابهة، ولا الإدارات التي ينتسبون إليها متشابهة. كل شيء يخضع لمزاجية المسؤول الكبير. تختلف كل إدراة عن الأخرى في البناية وفي الواجهة، في التعويضات أيضاً و"البريستيج" الذي يحظى به أطرها." هذا التوصيف وأمثاله -وهي وافرة في الرواية- هو ما يعطي المضامين تميزها وكثافتها كإضافات ملحوظة توفر تشخيصاً وفياً "لطموح مكسور" ناتج عن خيبة خلفت حزناً مقيماً، وهذا ما يعطي للرواية واقعيتها والحال أنها من صنع التخييل، أو ثمة ما هو أكثر واقعية من الخيال؟
وعلى الجملة يمكن القول في أعقاب عبد الرحمان منيف إن " الرواية الأولى هي الخطوة الأولى في الظلام، وهي أيضا الشهادة إذا حصل الاعتراف بالروائي أو لم يحصل، وأيضا هي الهم، الأكثر وجعاً، الذي يريد الكاتب أن يوصله كشهادة أو كرسالة." وعلى الجملة، فهذه شهادتي المختصرة عن هذه الرواية الموفقة شكلا ومضموناً، وللقراء وأذواقهم واسع النظر.