Monday 11 August 2025
كتاب الرأي

نعيمة بنعبد العالي: الأسطورة: الإيمان.. الحكي وإعادة خلق العالم

 
 
نعيمة بنعبد العالي: الأسطورة: الإيمان.. الحكي وإعادة خلق العالم نعيمة بنعبد العالي

مقدّمة

على حافة التاريخ والأسطورة، تقف زرقاء اليمامة، عيناها معلّقتان في الأفق البعيد. رأت الخطر قبل أن يقترب بثلاثة أيام من السير، فصرخت محذّرة، لكن صوتها ضاع بين السخرية والشك. لم يكن الرفض موجّهاً لرؤيتها وحدها، بل للعالم الذي تفتحه تلك الرؤية. منذ ذلك اليوم، ظلّت زرقاء تمشي بين الحكايات، تتبدّل الأسماء والأزمنة، لكن عينيها لا تنطفئان. فكل أسطورة تبدأ بعيون ترى ما لا يراه الآخرون، وبقلب يعرف أن الحكي ليس ترفاً، بل وسيلة للبقاء.

في كل مرة يرتفع صوت مثل صوت الزرقاء، يحبس العالم أنفاسه، مستعدّاً ليُعاد خلقه.

 

افتتاح تحليلي

من خلال زرقاء اليمامة، يظهر سؤال يتجاوز قصتها: في الأسطورة، هل نؤمن بالبطل أم بالعالم الذي يكشفه؟ الإيمان بالزرقاء ليس مجرّد القبول بأن امرأة تستطيع أن ترى لمسافة ثلاثة أيام من السير، بل هو الانضمام إلى نظام يعتبر اللامرئي جزءاً من الواقع، حيث يمكن للإشارات والنذر أن تحمل قوة القانون.

فالأسطورة لا تعيش وحدها، بل تتمدّد داخل إطار رمزي يمنحها قوتها. خارج هذا الإطار، تبدو رؤية الزرقاء مجرّد غرابة؛ وداخله، تصبح مفتاحاً لفهم نظام الكون.

 

1. الإيمان بالبطل أم بالنظام؟

تتشارك زرقاء مع كاساندرا الإغريقية المصير القاسي نفسه: أن تكون على حقّ قبل الأوان. لكن الإيمان بهذه الشخصيات لا يعني مجرّد تصديق كلمات فردية؛ بل القبول بمنظومة رمزية كاملة. إنه إقرار بأن الواقع لا يقتصر على ما يُقاس، وأن الإدراك البشري قد يتجاوز حدوده.

رولان بارت، في أسطوريات، يذكّرنا بأن الأسطورة خطاب. لكنها خطاب يعمل داخل سياق محدّد، مكوَّن من قيم ورموز وإشارات مشتركة. خارجه، تصبح حكاية؛ وداخله، تتحوّل إلى حقيقة فاعلة.

 

2. الأسطورة كإعادة صياغة للوجود

الأساطير لا تكتفي بوصف العالم، بل تعيد صياغة طريقتنا في العيش داخله. إنها تطرح الأسئلة الكبرى: الخير والشر، الفناء، الخلق.

ميرتشا إلياده يرى أن الأسطورة تعيد تفعيل «الزمن الأولي». زرقاء، مثل جلجامش في بحثه عن الخلود، أو آدم وحواء أمام شجرة المعرفة، تجسّد سؤالاً: ماذا نفعل بمعرفة تعزلنا عن الآخرين؟

جوزيف كامبل، في البطل ذو الألف وجه، يوضح أن الثقافات جميعها تعرف هذه البنية: الدعوة، المحنة، التحوّل. زرقاء تلقت الدعوة (رؤيتها)، وخاضت المحنة (رفض قومها)، وتركت للزمن مهمة تحويل قصتها إلى درس.

 

3. كل أزمة… إعادة خلق للعالم

التاريخ الإنساني سلسلة من الانكسارات والولادات الجديدة. مع كل أزمة، يولد سرد مؤسس يعيد ترتيب الفوضى.

عندما عاشت أثينا الحرب والطاعون، أعادت مآسي سوفوكليس وإسخيلوس صياغة مفاهيم العدالة والمصير. وفي أواخر الإمبراطورية الرومانية، قدّمت المسيحية سردية كونية جديدة تتمحور حول إله متجسّد. وفي عصر النهضة، أطلقت الكشوف الجغرافية أساطير الاستكشاف والغزو.

في كل عصر، هناك «زرقاء» ما: صوت نبوئي، غالباً ما يُهمل، لكن قصته تبقى وتصبح مرجعاً للأجيال التالية.

 

4. التحوّلات المعاصرة

اليوم، غيّرت الأساطير أزياءها:

  • تكنولوجية: الذكاء الاصطناعي كعراف معاصر، وشخصيات وادي السيليكون كبروميثيوس حديث.
  • سياسية: الزعيم المخلّص الذي يعد بإعادة العصر الذهبي.
  • شخصية: كل فرد يصنع على شبكات التواصل ملحمته الصغيرة.

حتى السرديات المؤامراتية تستعيد بنية الأساطير القديمة: قوى خفية، صراع مانوي، نخبة تعرف الحقيقة وجماهير لا تراها. والسؤال هنا أيضاً كما مع زرقاء: هل نصدّق الصوت، أم نصدّق العالم الذي يرسمه؟

 

5. الأسطورة والحكي: رفيقا الزمن

الأساطير ترافق هزّات الزمن كأصدقاء صامتين. في الثقافات الأمريكية الأصلية، يُروى خلق العالم عند بداية الشتاء إعلاناً بأن الدورة ستستأنف. وفي السهرات العربية، كان استدعاء عنترة بن شداد في زمن القحط إعلاناً بأن الكرامة رأس مال لا ينضب.

وفي عصرنا، تلعب أعمال مثل سيد الخواتم، والنمر الأسود، وماتريكس الدور نفسه: تساعد على عبور الشكوك، مثل زرقاء التي، رغم الرفض، تواصل حراسة الأفق.

 

6. عالم قابل للعيش لأنه قابل للحكي

الأسطورة تجعل العالم قابلاً للعيش لأنها تجعله قابلاً للحكي. إنها تربط الأمس بالغد، حتى لو كان هذا الربط منسوجاً بالرموز والوهم.

زرقاء اليمامة، ما زالت هناك، عيناها نحو الأفق، تجسّد هذا الدور الأبدي: أن ترى قبل الآخرين، أن تتكلّم رغم الشك، وأن تترك للزمن مهمة إثبات رؤاها.

المعابد تغيّرت، والكهنة استبدلوا أزياءهم ببذلات أو سترات قطنية. الآلهة تظهر في خيوط الأخبار أو في أفلام هوليوود. لكن دورها لم يتغيّر: أن تمنح كل جيل حكاية يبدأ منها من جديد.

في كل أزمة، إعادة خلق. في كل إعادة خلق، حكاية. وفي كل حكاية، هناك زرقاء، في مكان ما، تقول: «اسمعوا… العالم على وشك أن يُعاد خلقه.»