Sunday 10 August 2025
اقتصاد

عبد الحكيم العياط: وعد السكن المفقود … كيف أخفقت السياسات السكنية في المغرب؟

 
 
عبد الحكيم العياط: وعد السكن المفقود … كيف أخفقت السياسات السكنية في المغرب؟ صورة أرشيفية
بين وعد السكن وواقع التحديات ظل ملف الإسكان في المغرب منذ الاستقلال واحد من أكثر القضايا إلحاحا في السياسات العمومية، حيث شكل مقياس لقدرة الدولة على تحقيق العدالة الاجتماعية وضمان كرامة المواطنين. وبرغم المجهودات المبذولة والميزانيات الضخمة التي رصدت على مدى عقود، لا يزال الفرق شاسعا بين الأهداف المعلنة والنتائج الملموسة، إذ تحول السكن تدريجيا من حق اجتماعي إلى سلعة عقارية تُدار بمنطق السوق والمضاربة.
تاريخيا وفي المراحل الأولى لما بعد الاستقلال، كانت السياسات تركز على توفير وحدات سكنية للفئات الهشة والمتوسطة في إطار مشاريع وطنية تحمل بعد اجتماعي وسياسي في آن واحد. غير أن التحولات الاقتصادية والمالية التي شهدها المغرب منذ التسعينيات جعلت الاستثمار في العقار جزء من دينامية السوق أكثر من كونه سياسة اجتماعية، وهو ما انعكس على طبيعة العرض السكني الموجه في الغالب نحو الفئات القادرة على الدفع بدل الشرائح الأكثر حاجة. وحسب المعطيات تراجع العجز السكني من 1.24 مليون وحدة سنة 2002 إلى حوالي 425 ألف وحدة سنة 2018 بفضل برامج كبرى مثل "مشروع 200 ألف سكن" و"مدن بدون صفيح" الذي أنجز 270 ألف وحدة بكلفة قاربت 32 مليار درهم، لكن هذه الإنجازات شابتها تجاوزات تمثلت في استفادة غير المستحقين وغياب المواكبة الاجتماعية للمستفيدين.
أحد أكبر مظاهر الخلل في السياسة السكنية يتمثل في الطريقة التي نُفذت بها مشاريع إعادة إيواء قاطني دور الصفيح، حيث اكتفت السلطات في كثير من الحالات بترحيل الأسر إلى تجمعات سكنية جديدة تقع في أطراف المدن أو في مناطق شبه معزولة تفتقر إلى البنية التحتية والخدمات الأساسية وفرص الشغل. هذه المقاربة التي بدت في ظاهرها حل إنساني تحولت على المدى المتوسط إلى ما يشبه "غيتوهات" مغلقة معزولة اجتماعيا واقتصاديا، إذ تجمّعت فيها الهشاشة والفقر والبطالة في فضاءات محدودة جغرافيا ما أنتج بيئة خصبة لانتشار الجريمة وتعاطي المخدرات وفشل الاندماج الاجتماعي. وبذلك بدل أن تسهم هذه المشاريع في تحسين جودة حياة المستفيدين ودمجهم في النسيج الحضري أعادت إنتاج التهميش بشكل أكثر قسوة وبصورة مؤسساتية، مما يطرح أسئلة حقيقية حول غياب البعد التنموي المندمج في تخطيط وتنفيذ هذه البرامج.
كذلك تبرز المعضلة في عدم تناسب الأسعار مع القدرة الشرائية، حيث تشير وزارة إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان وسياسة المدينة إلى أن العجز على مستوى المساكن بلغ 400 ألف وحدة ، فيما يبلغ إيجار شقة متوسطة في الدار البيضاء أو الرباط حوالي 5500 درهم شهريًا مقابل دخل شهري متوسط يتراوح بين 1793 و3422 درهم وهو ما يجعل الولوج إلى السكن اللائق حلم بعيد المنال بالنسبة لشريحة واسعة من المواطنين. حتى الانخفاض الطفيف في أسعار الأراضي ما بين 1.4% و4.9% مطلع 2024 لم ينعكس إيجابًا على الأسعار النهائية للوحدات السكنية بسبب ارتفاع تكاليف البناء والضرائب وضعف المنافسة الفعلية في السوق.
جانب آخر من الإشكالية يتمثل في التفاوتات المجالية الصارخة، حيث استفادت المدن الكبرى من استثمارات ضخمة في الإسكان بينما ظل الوسط القروي وضواحي الحواضر في حالة تهميش مع ضعف في البنية التحتية والخدمات المرافقة. هذه الفجوة المجالية لا تعكس فقط قصور التخطيط الترابي بل تساهم أيضًا في تعميق الهجرة الداخلية نحو المراكز الحضرية مما يزيد الضغط على المدن ويؤدي إلى بروز أشكال جديدة من السكن غير اللائق.
من المفارقات الصادمة أن المغرب يضم أكثر من 1.1 مليون مسكن فارغ في ظل الطلب المرتفع على السكن وهو رقم يعكس خلل في التوازن بين العرض والطلب كما يكشف عن قصور الإطار القانوني المنظم للإيجار الذي لا يشجع المالكين على عرض مساكنهم للكراء بسبب ضعف الحماية القانونية وتعقيد مساطر الطرد في حالة النزاعات. هذا الوضع يعرقل دينامية السوق ويحول دون استغلال فعّال للمخزون السكني المتاح.
التحديات التي تواجه السياسة السكنية لا تتعلق فقط بتمويل المشاريع أو توفير الأراضي بل تمتد إلى غياب رؤية متكاملة تربط بين الإسكان والنقل والتشغيل والخدمات العمومية. الاكتفاء ببرامج معزولة ذات أهداف كمية يفقد السياسة السكنية بعدها التنموي الشامل ويجعلها عاجزة عن الإسهام في تحسين جودة العيش ودمج الفئات الهشة في النسيج الحضري.
كما أن التجربة أثبتت أن إطلاق مشاريع ضخمة دون مواكبة اجتماعية وثقافية للمستفيدين يؤدي في كثير من الحالات إلى فشل الاندماج في البيئة الجديدة وظهور مشاكل أمنية واقتصادية في الأحياء التي أُنشئت خصيصا لإعادة إيواء ساكني دور الصفيح هذه النتيجة تكشف أن السكن ليس مجرد جدران وسقف، بل هو عملية متكاملة تتطلب تخطيطًا حضريًا ذكيًا ومراعاة للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية للمستفيدين.
الواقع أن أزمة السكن في المغرب ليست نتيجة نقص في المبادرات بل نتيجة غياب فلسفة واضحة للتدخل العمومي تجعل من الإنسان محور السياسة الإسكانية وإن تجاوز هذا الوضع يتطلب الانتقال من منطق الكم إلى منطق الكيف ومن التركيز على الأرقام إلى التركيز على جودة الحياة مع ضمان التوزيع العادل للاستثمارات بين الجهات واعتماد آليات شفافة للحكامة والتمويل وحدها هذه المقاربة يمكن أن تجعل من الحق في السكن واقع ملموس بدل أن يبقى وعد مؤجل.
 
 

عبد الحكيم العياط      

باحث جامعي في العلوم السياسية