Monday 30 June 2025
كتاب الرأي

العمارتي: جريمة الإبادة الجماعية للفلسطينيين في غزة.. ملاحظات حول قطعية النصوص القانونية الدولية وازدواجية معايير التطبيق (1)

العمارتي: جريمة الإبادة الجماعية للفلسطينيين في غزة.. ملاحظات حول قطعية النصوص القانونية الدولية وازدواجية معايير التطبيق (1) محمد العمارتي
يجدر التنبيه في البداية أنه بالنظر الى حساسية موضوع الإبادة الجماعية وتعدد زوايا البحث فيه، وغزارة ما يتوفر حوله من كتابات متخصصة، فهذه المقالة المقتضبة في حيزها، والمحدودة من حيث هدفها، ليست بالتأكيد هي المقام الملائم للإحاطة بشكل واف بكافة الابعاد والتعقيدات التي تميز هذا الموضوع الذي يوجد في ملتقى وتقاطع التاريخ والذاكرة. كما أن هذا المقال لا يسمح قطعا بتحليل شامل ومعمق للمصادر القانونية المرجعية ا للموضوع، وتطوراته القضائية ورهاناته وامتداداته الجيوسياسية. ولعل خصوصية هذا الموضوع وخصوبة و تراكم البحث العلمي في هذا المجال هو ما دفع ثلة من المختصين في مختلف العلوم الاجتماعية إلى إصدار دورية متخصصة في الدراسات والأبحاث حول الإبادة الجماعية The journal of Genocide Research» ، كما شجع بعض الجامعات العالمية على إحداث برامج أكاديمية متخصصة في الموضوع. وحسبنا في هذه المقالة التي تستهدف أساسا القراء غير المتخصصين توضيح الملامح الكبرى لجريمة الإبادة الجماعية في القانون الدولي ، و تقديم العناصر والأدوات القانونية الأساسية التي تساعد على تبديد الالتباسات الكثيرة التي تحيط بهذه الجريمة الدولية ، لا سيما بعد احتدام الجدل حول مفهوم الإبادة الجماعية الذي فرضه السياق الراهن لاستمرار العدوان الإسرائيلي على سكان قطاع غزة، وتفاقم وضعهم الإنساني الكارثي، و اشتداد الخلاف حول ارتكاب القوات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني لجرائم قد يشملها وينطبق عليها تعريف جريمة الإبادة الجماعية في القانون الدولي .
 
تجمع الأبحاث والدراسات التاريخية والقانونية المتوفرة والمستفيضة في موضوع الإبادة الجماعية Génocide على أن رجل القانون:" رافاييل ليمكين" Raphael Lemkin (1900- 1959 (الأمريكي/ البولوني اليهودي الأصل، الذي لجأ الى الولايات المتحدة هاربا من النظام النازي في ألمانيا كان أول من أبدع في سنة 1944 مفهوم جريمة الإبادة الجماعية: Génocide وأدخل هذا المصطلح الى قاموس القانون الدولي. وقد ركب هذا المصطلح بالدمج بين الكلمة الإغريقية:" جينوس " التي تدل على العرق والقبيلة والنوع والجماعة، وكلمة "cide " اللاتينية التي تفيد معنى «قتل".
 
و قد نجازف بالقول أن" ليمكين " لم يكن ليخطر على باله ربما ، أن الدولة العبرية التي أعلنت استقلالها في مايو 1948 ،و اعترفت بها الأمم المتحدة كعضو في هذه المنظمة في 1949 ،ستواجه يوما أمام العدالة الدولية بتهم ارتكاب ما وصفه هو نفسه ب " جريمة الجرائم" ولكن هذه المرة ضد الشعب الفلسطيني بنية إبادته كليا أو جزئيا ، وهي الجريمة التي لم يجد لها "ليمكين" تعريفا محددا في قانون الحرب إبان محاكمة مجرمي الحرب النازيين في نورمبرغ ( 1945 و 1946) ،حيث خلص الى أن قواعد قانون الحرب التي كانت موجودة آنذاك لم تكن ملائمة لمعالجة الأشكال الجديدة للعنف السياسي الذي أصبح يشهده العالم .
 
ومما لا شك فيه، أن خطورة و حدة الطابع الدموي المأساوي للعدوان الإسرائيلي وآثاره الإنسانية الكارثية على المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة و باقي الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عمليات السابع من أكتوبر 2023، قد أحيا النقاش الصاخب حول تعريف جريمة الإبادة الجماعية في القانون الدولي اعتبارا لحمولتها التاريخية والسياسية الحساسة وتبعاتها القانونية الجسيمة ، كما زاد من جديد في حدة الخلاف بين المختصين حول أركان وعناصر هذه الجريمة وطرق ووسائل إثبات حصولها ، كما كشف أمام أنظار العالم مرة أخرى، الانفصام الغريب الذي يعتري جريمة الإبادة الجماعية ، والتنازع الشديد الذي يطبعها بين قطعية القواعد القانونية التي تتأسس عليها والنسبية الكبيرة والانتقائية الصادمة التي تقيد الى حد كبير تطبيق هذه القواعد في الواقع.
 
إن الشحنة التاريخية القوية لمصطلح الإبادة الجماعية الذي تمت صياغته واعتماده بعد الحرب العالمية الثانية لتوصيف جرائم القتل الجماعي لليهود من طرف النظام النازي الألماني ولمنع تكرار ارتكاب هذه الفظائع ، هي التي تفسر في رأي البعض، الحذر الشديد والتردد الكبير أو حتى الرفض الواضح لعدد من القادة السياسيين في العالم لإطلاق وصف الإبادة الجماعية على مصير الفلسطينيين في غزة ، ناهيك عن الدور الخطير للآلة الإعلامية الموالية لإسرائيل في مصادرة تعبير الإبادة الجماعية Génocide ، والسطو عليه و السعي الى احتكاره و استغلاله،واستبعاده من التداول خارج دائرة تاريخ وذاكرة محرقة اليهود ، كما لو أن هذا الوصف لا ينطبق على أية وقائع وحالات أخرى في ماضي الإنسانية أو تاريخها الراهن، ولا يجوز استعماله سوى لتوصيف ما يسميه الغرب ب" الهولوكوست" و Shoah ( المحرقة).
 
والجدير بالتذكير في هذا الصدد، أن منظمة الأمم المتحدة تعترف رسميا إلى غاية اليوم بثلاث حالات للإبادة الجماعية ( إبادة الأرمن في 1915- 1916 من طرف الإمبراطورية العثمانية ، إبادة اليهود ما بين 1941 و 1945 إبان النظام النازي في ألمانيا وإبادة التوتسي في 1994التي ارتكبها نظام الهوتو في رواندا )،لكن جرائم القتل الجماعي التي نفذها الصرب ضد السكان المدنيين المسلمين في" سريبرنيسكا " بالبوسنة ،قد تم تكييفها كجرائم للإبادة الجماعية من لدن المحكمة الجنائية الدولية المؤقتة ليوغوسلافيا السابقة ومحكمة العدل الدولية .كما ان مجموعة من قادة نظام " الخمير الحمر " في الكمبودج( 1975 – 1979) قد تمت محاكمتهم بتهم الابادة الجماعية لما يقرب من مليوني شخص وإدانتهم من طرف الغرف الاستثنائية المحدثة لهذه الغاية لدى محاكم الكمبودج في 2003 بتعاون وثيق مع الأمم المتحدة .
 
وعلى الرغم من أن الجمعية العامة للأمم المتحدة قد أصدرت قرارا منذ 16 دجنبر 1982أدانت فيه بشدة القتل الجماعي للمدنيين الفلسطينيين في الأحداث الدموية لمخيمات اللاجئين ب"صبرا" و"شاتيلا" التي وصفها القرار ب عمل من أعمال الإبادة الجماعية، فإن الاعتراف الرسمي على الصعيد الدولي لا زال يقتصر على الحالات الثلاث المشار اليها (الأرمن واليهود والتوتسي )، كما أن حالات " الروهينغا" في "ميانمار" و"الأويغور" في الصين مازالت هي الأخرى تثير الخلاف حول مدى تعرض هذه الجماعات للإبادة .
 
وفي ضوء ما سبق، كان من المتوقع ملاحظة أن استعمال مصطلح "جريمة الإبادة الجماعية" لوصف ما يتعرض له السكان المدنيون الفلسطينيون من قتل جماعي بعد عشرين شهرا من الحرب المدمرة التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة، ما زال لا يحظى بإجماع عالمي سواء بين القانونيين المختصين أو لدى القادة السياسيين.
 
فعلى سبيل المثال، فرغم كثرة تصريحات الرئيس الفرنسي وإعلاناته المتوالية عن مواقف بلاده حيال الوضع الإنساني الخطير لسكان غزة ودعواته المتكررة لوقف إطلاق النار، بل وعزم بلاده على الاعتراف بالدولة الفلسطينية في أجل قريب، إلا انه كغيره من قادة الدول الأوروبية ما زال مصرا على رفض استعمال تعبير الإبادة الجماعية لوصف الجرائم الفظيعة التي ترتكبها القوات الإسرائيلية في غزة، مكتفيا بوصفها ب " المأساة الإنسانية ". وحتى حينما يحرج بسؤاله عن الفرق بين "المأساة الإنسانية "و"الإبادة الجماعية،" فإنه يتهرب من الجواب ملقيا مسؤولية توضيح الفصل بينهما على المؤرخين!
 
لسنا في حاجة للرجوع بتفصيل الى أصل نشأة تعبير جريمة الإبادة الجماعية واستعراض مختلف المراحل التي استلزمها تبلور مكونات وعناصر تعريف هذه الجريمة وصولا الى التكريس المعياري لهذا التعريف في القانون الدولي. ويكفينا القول بهذا الصدد، أن ثمة اتفاق واسع على أن تعريف الإبادة الجماعية ينبثق بشكل مباشر من محاكمة مجرمي الحرب النازيين في "نورمبرغ" (1945 – 1946)، رغم أن مصطلح جريمة الإبادة الجماعية لم يرد في التهم الموجهة إلى المتابعين، نظرا لعدم وجود تعريف قانوني واضح ودقيق لهذه الجريمة إبان مثولهم أمام المحكمة، ومتابعتهم على أساس تهم ارتكابهم جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وجرائم ضد السلام. و شهد تعريف الإبادة الجماعية في القانون الدولي منعطفا حاسما في 9 دجنبر 1948 مع اعتماد الأمم المتحدة لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (بالفرنسية والانجليزية تم استعمال تعبير الوقاية: Prévention et répression du crime de génocide (- Prevention and Punichement التي دخلت الى حيز النفاذ في 1951 وصادقت عليها أو انضمت اليها (إلى غاية هذه السنة) 153دولة . وقد أقامت الاتفاقية تمييزا بين جريمة الإبادة الجماعية التي قد ترتكب أثناء السلم أو في حالة الحرب، وغيرها من الجرائم الأخرى التي ترتكب أثناء النزاعات المسلحة. ولاستجلاء مفهوم الإبادة الجماعية في القانون الدولي وتبديد الالتباس الذي قد يحيط بها ويؤدي عادة الى اختلاط مدلولها القانوني الدقيق مع الجرائم الدولية الأخرى، لا بد من الاستحضار المركز للتعريف الاتفاقي لهذه الجريمة التي " ألحقت خسائر جسيمة بالإنسانية "(ديباجة الاتفاقية) وتحديد المقصود بها وحصر الأفعال التي يشملها تعريف هذه الجريمة.
 
فطبقا للمادة الثانية من اتفاقية 1948 تنطبق الإبادة الجماعية على أي من الأفعال (التالية) المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية national أو إثنية ethnique أو عنصرية racial أو دينية religieux، بصفتها هذه:
قتل أعضاء من الجماعة.
إلحاق أذى جسدي أو عقلي خطير بأعضاء من الجماعة.
إخضاع الجماعة، عمدا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا.
د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.
ه) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.
 
يتضح ان هذا التعريف يشترط توفر ثلاث عناصر أو أركان مجتمعة لانطباق وصف الإبادة الجماعية على فعل معين. العنصر المادي ويعني ارتكاب فعل واحد أو أكثر من الأفعال المحددة في اتفاقية 1948 (المادة 2)، العنصر المعنوي ويتمثل في وجود النية والقصد للتدمير الكلي أو الجزئي لجماعة بصفتها هذه، وجود جماعة محددة بالتخصيص، أي اشتراك أعضاء الجماعة التي تتعرض للإبادة في الانتماء لنفس القومية أو العرق أو العنصر أو الدين. وإذا ما تم الرجوع الى تعاريف الإبادة الجماعية التي كرستها واعتمدتها النصوص اللاحقة للأنظمة الأساسية لمجموعة من المحاكم الدولية (المحكمة الجنائية الدولية لرواندا 1994، المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة 1993، الآلية الدولية للمحاكم الجنائية 2010، نظام الغرف الاستثنائية المحدثة لدى المحاكم في الكمبودج، النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، مشروع مدونة الجرائم ضد السلام وأمن الإنسانية ...) فسوف يتضح أنها قد أخذت كلها ،وخاصة منها نظام المحكمة الجنائية الدولية (المادة 6) بتعريف الإبادة الجماعية الذي كرسته اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، الأمر الذي يضفي على هذا التعريف طابعا معياريا أساسيا وعالميا لا جدال فيه، كما يرفع من مكانة القواعد التي تجرم الإبادة الجماعية الى مرتبة القواعد الآمرة التي تعتبر ملزمة في مواجهة الجميع، ولا تحتمل التقييد او الاستثناء في أي وقت أو ظرف.
 
واستنادا إلى التعريف الاتفاقي العالمي لجريمة الإبادة الجماعية، وما إذا كان فعل واحد أو مجموعة من الأفعال التي يحددها حصرا ترتكبها القوات الإسرائيلية في عدوانها المتواصل على السكان المدنيين في قطاع غزة، ثمة فعلين على الأقل يبدو أنهما يجب أن يسترعيا الانتباه بصورة خاصة، الأول هو قتل أعضاء من الجماعة والثاني هو إخضاع الجماعة، عمدا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا.
 
فارتكاب هذه الأفعال يمكن أن يشمل ويسري على أوضاع وممارسات عديدة من بينها تحديدا فرض المجاعة على جماعة معينة بقصد تدميرها وإبادتها.
 
وبهذا الخصوص أكدت التقارير الموثقة والمتواترة للأمم المتحدة انهيار الوضع الإنساني في غزة التي أصبحت جحيما فوق الأرض. فقد اعتبر الأمين العام للأمم المتحدة في آخر تصريحاته أن الوضع في غزة يشهد أزمة إنسانية ذات أبعاد مروعة، مشددا على أن سكان غزة" يقتلون لمجرد محاولتهم إطعام أنفسهم وعائلاتهم ".
 
كما شجب مرارا الكثير من الملاحظين والخبراء و العاملين في المجال الانساني الحصار المفروض على وصول المساعدات الغذائية الضرورية والكافية للمدنيين في غزة ، وفضحوا النظام المتبع لتوزيع المساعدات الذي فرضه الجيش الإسرائيلي بالقوة ،واستعمله لنصب كمين للمدنيين المتجمهرين حول مراكز توزيع المواد الغذائية يحصد يوميا أرواح الضحايا الفلسطينيين من النساء والأطفال أثناء محولاتهم الوصول الى شاحنات المساعدة ، (يراجع التحقيق الصحفي المنشور في جريدة "هارتس"
 
الإسرائيلية في 27 يونيو 2025 ،لذي فضحت فيه بشهادات موثقة من جنود وضباط إسرائيليين تلقيهم أوامر بإطلاق النار على المدنيين رغم عدم تشكيلهم لأي تهديد على الجنود الإسرائيليين) .وقد استنكر بشدة Jonathan Whittal رئيس مكتب الشؤون الإنسانية لدى الأمم المتحدة هذا الوضع الذي "أصبحت فيه مجرد الإرادة في البقاء على قيد الحياة حكما بالإعدام" ، كما أدان ما اعتبره ليس من قبيل "التتابع المأساوي للظروف بل نظاما للترهيب واستراتيجية متعمدة للقتل " .
 
وما يجدر التأكيد عليه أن هذا الوصف القاتم لوضع المدنيين الذين يواجهون المجاعة في غزة ليس تشخيصا معزولا، ذلك أن عدة مسؤولين أمميين يشاطرون الإدانة القوية لما يتعرض له سكان غزة من تجويع وقتل متعمد. فعلى سبيل المثال لا الحصر، اتهم المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين (الاونروا)، المجتمع الدولي ب " التقاعس والسلبية المذنبة"، معتبرا أن "مأساة الفلسطينيين في غزة هي نتيجة عشرين شهرا من الرعب والتقاعس والتقصير والإفلات من العقاب «. ومن جهتها ذهبت" فرانشيسكا ألبانيز " (المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967)، إلى أبعد من ذلك معتبرة أن تكليف الدولة المتهمة بجريمة الإبادة الجماعية، (تكليفها) بتوزيع المساعدة أمر "عبثي، سخيف ولا أخلاقي واحتقار لقواعد ا للياقة الإنسانية".
 
وفي إطار تحليل عناصر جريمة الإبادة الجماعية يجب أثارة الانتباه الى عنصرين يكتسيان أهمية كبيرة: فكرة القصد وتعمد التدمير الكلي أو الجزئي ،ومفهوم الجماعة، ذلك أن ما يضفي على الإبادة الجماعية خصوصيتها وطابعها المتميز ليس هو عدد الضحايا والوفيات التي تخلفها بل نية وإرادة تدميرجماعة محددة بذاتها. فقد أوضح المدعي العام في لائحة الاتهام التي ترافع بها، وتوفق في استصدار أول إ دانة بتهمة الإبادة الجماعية أمام قضاة المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا، أن اتفاقية منع الإبادة الجماعية لسنة 1948 تضمن الحماية في نفس الوقت لحق الجماعة في الوجود والحياة، وحق الإنسانية في الاستفادة من وجود جماعة معينة وبقائها على قيد الحياة. وشرح كيف تتجاوز فكرة تدمير جماعة معينة مجرد الموت وسلب الحياة وتتسع لتشمل مجموعة من الأفعال التي تؤدي الى حرمان الجماعة من كل إمكانيات البقاء والاستمرار.
 
ومن ثم، يعتبر المختصون أن عدد الضحايا والقتلى من الجماعة ليس هو المعيار الحاسم لوحده في تكييف جريمة الإبادة الجماعية (حسب التقديرات المتوفرة خلفت مجزرة سريبرينتشا 8000 قتيل من النساء والأطفال البوسنيين في بضعة أيام، وما بين 500,000 و000 800 خلال ثلاثة أشهر في رواندا)، وحتى إذا كان عدد الضحايا مؤشرا دالا على ثبوت ارتكاب الإبادة الجماعية فإنه ليس مكونا للجريمة، لأن ما يشكلها يتمثل في القصد والنية المحددة في تدمير وإبادة جماعة بصفتها هذه.
 
ويبقى سؤال مهم يثار في سياق الحرب المستعرة على المدنيين في غزة، ويتعلق بكيف نحدد الجماعة / الضحية؟ هل يقصد بها السكان المدنيون الفلسطينيون لقطاع غزة على وجه التخصيص والحصر؟ أم تشمل الجماعة المعنية الفلسطينيين في مجموعهم الذين يعيشون في الضفة الغربية والقدس الشرقية؟
 
لا بد من التذكير بأمرين مهمين ، أولهما أن جريمة الإبادة الجماعية والأفعال المكونة لها ترتكب دائما ضد جماعة معينة (يهود ألمانيا، التوتسي في رواندا والمسلمين البوسنة في يوغسلافيا السابقة) ،وثانيهما أن قضاة محكمة العدل الدولية أكدوا وجود خطر وشيك لتدمير فلسطينيي غزة ووجود احتمال قوي لارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة ( يراجع الأمر الاستعجالي للمحكمة في دعوى جمهورية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل الصادر في 14 أبريل 2025).ويعزى تحديد المحكمة لجماعة الفلسطينيين الموجودين في غزة لتهديد وشيك بالتعرض للإبادة لأسباب إجرائية بحتة ،تتعلق بمضمون الدفوع التي ارتكزت عليها جنوب افريقيا في الدعوى التي قدمتها ضد إسرائيل في 29 دجنبر 2023( راجع مقالتنا في الموضوع المنشورة في أنفاس بريس، 20 يناير 2024)، حيث أن دفوعات الدولة المدعية وملتمساتها المقدمة الى المحكمة لإصدار أوامر باتخاذ تدابير مؤقتة واحترازية ، انحصرت في اتهام إسرائيل بارتكاب انتهاكات لالتزاماتها بمقتضى اتفاقية منع الإبادة الجماعية لسنة 1948ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، وذلك خلال الفترة الفاصلة بين 29 يناير 2023 و 28 مارس 2024 . بيد أنه في تقدير بعض الخبراء القانونيين، إن جريمة الإبادة الجماعية التي قد يثبت أمام محكمة العدل الدولية ارتكابها من طرف إسرائيل، تشمل جميع الفلسطينيين ولا تقتصر على من يعيش منهم في قطاع غزة. ولا يستبعد هؤلاء القانونيين فرضية عودة المحكمة في مرحلة لاحقة من الدعوى المعروضة عليها الى هذه المسألة، ذلك أنه في جميع الحالات لا يجوز الحسم النهائي في جريان الدعوى التي يمكن أن تتطور مع مرور الوقت.
 
وأما في المرحلة الراهنة من الدعوى، فقد اكتفى قضاة المحكمة الدولية بالإجابة عن النقطة المحددة التي تتعلق بارتكاب إسرائيل لإبادة جماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة. ولا بأس من التذكير هنا ،أن النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية لا يخولها اختصاص التدخل من تلقاء نفسها ، حيث قيد تدخلها في نطاق الاختصاص القضائي في النظر في المنازعات القانونية التي تعرضها عليها الدول ، كما خول لبعض المنظمات الدولية والوكالات المتخصصة وأجهزة الأمم المتحدة إمكانية طلب آراء استشارية من المحكمة بخصوص مسائل قانونية محددة .ففي حالة الابادة الجماعية لفلسطينيي قطاع غزة التي تعنينا ، يتعلق الأمر كما سلفت الإشارة، بدعوى قدمتها دولة جمهورية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في سنة 2023 والتي تعتبر فيها أن هذه الأخيرة تنتهك القانون الدولي وقواعده الآمرة ، ولا سيما منها الالتزامات التي صادقت عليها وفقا لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لسنة 1948 ، وتلتمس من المحكمة السهر على تطبيق القانون الدولي وإلزام إسرائيل بالامتثال له في الحرب التي تشنها على غزة .
 
بناء على ما تقدم، وأخذا بالاعتبار مجموع العناصر التمهيدية التي ركزنا عليها في هذا الجزء الأول من المقالة، نقترح في جزئها الثاني تناول السبل والوسائل الممكنة من الناحية القانونية، لإثبات وجود النية والقصد لدى إسرائيل في التدمير الكلي أو الجزئي للفلسطينيين في غزة باعتبارهم ينتمون لجماعة بصفتها هذه.
 
 
محمد العمارتي /أستاذ القانون الدولي بكلية الحقوق بوجدة -سابقا -