Saturday 28 June 2025
كتاب الرأي

محمد أنور الشرقاوى : التاكسي وفردة الحذاء  

محمد أنور الشرقاوى : التاكسي وفردة الحذاء   محمد أنور الشرقاوى
 قصة  قصيرة 
 
كانت تمشي على الرصيف بخطى هادئة. معطفها الأخضر يرقص مع الريح، وكعباها يهمسان للأرض بنعومة: إنها عائشة.
رفعت ذراعها، وكأنها ترفع دعاءً إلى السماء.
أوقفت تاكسي.
انسلّت سيارة من زحمة الشارع، واقتربت، ثم توقّفت بهدوء قرب الرصيف.
السائق، بلحيته الكثّة وفكه المطبق، أشار بيده: تفضّلي.
ركبت عائشة السيارة، وأغلقت الباب بروية.
جلست في المقعد الخلفي، شبكت ساقيها، وأخرجت من حقيبتها مرآة صغيرة.
رتّبت خصلةً متمرّدة، وأصلحت رشاقة وجهها في مرآتها الفضية.
السائق، من خلال المرآة الأمامية، أرسل نظرة خفية......
يبدو أنها في الخامسة والعشرين، أو ربما أكثر بقليل.
سارت السيارة في الطريق المرسوم.
وفجأة...
تراءى على لوحة القيادة حذاء صغير...
حذاء لطفلة.
برباط متهالك، وبجلد أكل منه الزمن.
واحد من تلك الأحذية التي لم يعد أحد يصنع مثلها. أو نادرًا ما يفعل.
ارتجف قلب عائشة قليلاً.
تجمّد بصرها في مكانه، وأمالت رأسها كمن يصغي إلى نداء قادم من بعيد.
تشبثت  مقعدها، وكأنها تمسك بخيط من الذاكرة.
الذكريات اجتاحت كيانها كالسيل، لا يستأذن ولا يُردّ.
كانت في الرابعة من عمرها.
طفلة صغيرة تمسك يد أمّها في أحد أيام الربيع.
نزلا من التاكسي، وفجأة توقفت أمّها،
عيناها اتّسعتا بدهشة موجعة.
انحنت على قدم الصغيرة، لم تجد سوى واحدة.
وصاحت بصوتٍ اخترق الشارع والريح والقلوب:
ـ الحذاء! بنتي ضيّعت فردة الحذاء!
ركضت الأم، صاحت، جرت، لعلّها تلحق التاكسي البعيد.
لكن السيارة اختفت في غياهب المدينة،
ومعها اختفى نصف الحذاء...
نصف الطفولة...
نصف الخطوة.
واليوم...
ها هو أمامها.
أو شبيهه.
نفس التقوّس، نفس الندبة عند الرباط.
نفس الجلد العتيق الذي اشترته أمّها بحنانها الخالص.
دمعة صامتة سالت على خدّها، رقراقة، حارة.
فأمّها، منذ سنوات، لم تعد هنا...
أرادت أن تقول لها...
أن تريها...
أن تمسك يدها، أن تعود بنتًا صغيرة ليومٍ واحد فقط.
لكن لم تجد إلا الصمت.
فأخرجت عائشة منديلاً ناعمًا، مسحت دمعتها ووجعها.
وابتسمت.
لم تكن معجزة.
كانت همسة من الماضي.
إشارة من القدر.
حذاء صغير، كأنه هدية من السماء.
واصل التاكسي سيره،
وفي قلب عائشة، كانت خيوط الزمن تتشابك من جديد، بهدوء، بشِعر، بسلام.
فأمّها..
ما زالت في قلبها وفؤادها