تحت هذا العنوان، كتب الصحافي الفلسطيني، ابن غزة، محمد مهنا، الذي حضر ندوة الداخلة، المنظمة من طرف اللجنة المؤقتة لتسيير شؤون قطاع الصحافة والنشر، يومي 20-21 يونيو 2025، شهادة حول ما عاينه في الميدان:
عندما كنت أسمع عن مدينة الداخلة، كانت الصورة الذهنية التي تتكون لدي - كغالبية من سمعوا بها من بعيد - أنها مدينة تعج بالحواجز العسكرية، بالتدقيق الأمني الصارم، والجو المشحون بالتوتر.
كانت تتردد في ذهني دائمًا عبارات مثل: "منطقة صراع"، "نزاع طويل الأمد"، "مدينة على الهامش".. وبدأت أتساءل: هل سأتمكن من التحرك بحرية في هذه المدينة؟ هل يُسمح بالتصوير؟ هل يمكن الحديث مع الناس براحة؟
باختصار، كنت أتخيلها منطقة مغلقة، محاطة بالأسلاك، وسكانها يعيشون في عزلة خشية المجهول.
لكن كل تلك التصورات بدأت تتبدد، منذ اللحظة التي أقلعت فيها الطائرة من مطار الدار البيضاء باتجاه الداخلة.
ما شدني وأنا أركب الطائرة، هو أن المقاعد كانت ممتلئة بالكامل. كان نصف الركاب من المغاربة، والنصف الآخر من الأوروبيين؛ بعضهم شباب في مجموعات صغيرة، وبعضهم أسر كاملة مع أطفالهم.
وهنا وجدت نفسي أتساءل بفضول: لماذا يأتي هؤلاء إلى "منطقة صراع"؟ ما الذي يجذبهم؟ ما الذي لا أعرفه عن هذه المدينة؟
وبمجرد خروجي من المطار، وجدت الجواب يتجلى أمامي. رأيت أولئك الأوروبيين يحملون معدات كبيرة ومميزة.
سألت أحدهم، بابتسامة ودية، عمّا جاء بهم إلى الداخلة، فأجابني بنفس الود:
"نأتي إلى هنا كل عام لممارسة رياضة ركوب الأمواج... إنها من أجمل الأماكن في العالم لهذه الرياضة".
أدهشني رده، ليس فقط لأنه بدا مستمتعًا، بل لأنه يأتي كل عام! كانت تلك أول ضربة للصورة النمطية التي كنت أحملها.
ركبت السيارة باتجاه مكان إقامتي، وبدأت أتأمل المدينة من نافذة السيارة. الشوارع نظيفة ومنظمة، البنايات جميلة تتكون من طابقين إلى ثلاثة، الطرق معبّدة بشكل ممتاز، لا أثر لدخان الحروب أو لثقوب الرصاص كما اعتدت أن أرى في مناطق النزاع التي زرتها سابقًا بحكم عملي الصحفي.
لم أرَ حاجزًا أمنيًا واحدًا طوال الطريق. كان كل شيء يسير بانسيابية هادئة، كأن المدينة تقول لي: "انزع عنك أحكامك المسبقة، نحن نرحب بك".
وفي الأيام التالية، تنقلت بين الأسواق والمطاعم والمقاهي. تحدثت مع أصحاب المحلات، جلست مع بعض السكان ومرتادي المقاهي، وتناولت أكواب الشاي المغربي بالنعناع وسط أجواء من الألفة.
كانت إجاباتهم على أسئلتي بسيطة، صادقة، تنضح بالرضا، وبحب المكان. وجدت أناسًا مضيافين، بشوشين، وكرماء في أحاديثهم ومشاعرهم.
لكن ما أثار إعجابي أكثر، هو رؤية مشروع ميناء الداخلة الأطلسي، المشروع الضخم الذي يجري تشييده على قدم وساق.
مشروع بمقاييس دولية، يهدف إلى خدمة ليس فقط المغرب، بل أيضًا خمس دول أفريقية مجاورة لا تمتلك موانئ.
هذا الميناء سيساهم في تسهيل حركة الشحن، وتخفيض تكاليف البضائع لتلك البلدان، وخلق الآلاف من فرص العمل لسكان المنطقة. مشروع إنساني قبل أن يكون اقتصاديًا، وقفت أمامه بإجلال وفخر.
علمت أن الملك محمد السادس، هو من وجّه بأن يكون هذا المشروع جسر تعاون إقليمي، وليس فقط منفعة وطنية.
وهي نظرة ثاقبة تؤكد أن الداخلة ليست مجرد مدينة على هامش الخريطة، بل محور استراتيجي في قلب التنمية الأفريقية.
خرجت من الداخلة وأنا أشعر بالدهشة والامتنان من كل فكرة خاطئة حملتها عنها، وكل حكم أصدرته عليها قبل أن أعرفها.
لقد علمتني هذه المدينة درسًا عميقًا: أن الحقيقة لا تُروى من خلف الشاشات أو من خلال نشرات الأخبار، بل تُعاش على الأرض، وتُلمس في عيون الناس، وتُحس في دفء قلوبهم.
الداخلة ليست مدينة نزاع، بل مدينة سلام واستقرار، مدينة جمال طبيعي ساحر ومشاريع تنموية طموحة، وأناس يحملون المستقبل في عيونهم.
إنها لوحة مغربية نادرة تمزج بين سحر الصحراء وزرقة الأطلسي، وبين الكرم الحساني وروح المغرب الحديثة.
إنها ببساطة، مدينة يجب أن تُرى... لا أن تُحكى فقط.