رغم توالي تلقي العسكر الجزائري للهزائم الديبلوماسية، الواحدة تلو الأخرى، منذ الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، ظل الأمر الثابت على الأرض هو "بقاء الوضع على ما هو عليه" (الستاتيكو). فالجزائريون ماضون في استخدام لغة الاستفزاز والتصعيد السياسي والاقتصادي والإعلامي، والتهديد بالحرب و«الاستعراض الفارغ بلقوة»، ودعم الانفصاليين وتجيشهم، بل اختاروا الابتزاز أسلوبا للتعامل مع بعض الدول (إسبانيا؛ فرنسا؛ بريطانيا) التي انتصرت لمقترح الحكم الذاتي المغربي. غير أن التحول الكبير سيأتي من موريتانيا التي قررت، في خطوة جذرية ولها أكثر من دلالة، أن تُقيّد حركة البوليساريو داخل أراضيها، مما سيسمح للقوات المسلحة الملكية بالإمساك النهائي بالأرض بالتعاون مع القوات الموريتانية.
خروج موريتانيا من منطقة التردد، وانخراطها الجاد في تأمين حدودها في موقع جغرافي يشهد توترا عسكريا متصاعدا بين المغرب والبوليساريو، دليل تحول كبير يعكس التعاطي الإيجابي الذي أبداه الجانب الموريتاني مع التدخل العسكري الصارم الذي قامت به القوات المسلحة الملكية في معبر الكركرات منذ نونبر 2020، كما يعكس عدم رضوخ نواكشوط للتهديدات التي رفعها بعض قادة البوليساريو برفع السلاح ضدهم، خاصة أن السلطات الموريتانية باتت تدرك أكثر من أي وقت مضى أن ترك الحبل على الغارب للبوليساريو «دفاعا وهجوما» يعني الدخول إلى منطقة التماس مع التنظيمات الإرهابية في الساحل الإفريقي والصحراء الكبرى، فضلا عن دوره في إفساد العلاقة مع الرباط، مما قاد إلى توقيع وزير الداخلية وترقية اللامركزية والتنمية المحلية في موريتانيا، محمد أحمد ولد محمد الأمين، بتاريخ 11 فبراير 2025، على مقرر المعابر الحدودية الإلزامية على عموم الأراضي الموريتانية؛ وهو المقرر الذي حدد 82 نقطة حدودية برية، منها 8 بينها وبين المغرب.
لقد جاء هذا التحوّل الكبير على الأرض ليستعيد الجيش الموريتاني هيمنته على حدوده، وليسدّ الثغرات الحدودية التي ظل يستغلها مقاتلو البوليساريو ضد المغرب شرق الحزام الأمني، وخاصة بعد فشلهم الذريع والمتلاحق أمام يقظة القوات المسلحة الملكية، وبعد الهزائم النكراء التي استمروا بتكبدها على طول الجدار الأمني.
إغلاق تلك الثغرة لا يمكن تفسيره بقرار أمني محض، بل هو تحوّل نوعي في قواعد الاشتباك الجيوسياسي. فلعقود، شكّل المجال الموريتاني العازل بين المغرب والجزائر هامشًا لحركة البوليساريو، ومنفذًا لوجستيًا حاسمًا لشنّ عمليات متفرقة على امتداد الحزام الرملي. أما اليوم، ومع هذه الخطوة الميدانية التي اتخذها الجيش الموريتاني، يتغيّر ميزان الحركة العسكري تمامًا. إذ لم يعد لجبهة البوليساريو القدرة الفعلية على تحريك قواتها عبر الأراضي الموريتانية، وهو ما يعني دخولها مرحلة «الشلل في القدرات الهجومية»، وتحولًا حاسمًا في السيطرة الميدانية لصالح الجيش المغربي.
إن ما يُضاعف من وزن هذه الخطوة الحاسمة أنها لم تأتِ متبوعة بتصريحات موريتانية نارية حول الأمن الحدودي، أو تغيير رسمي في الخطاب السياسي المعلن، وبالقدر نفسه ليس هناك أي احتفالية مغربية بهذا التحول القاطع. بل على العكس من ذلك، ما زالت نواكشوط تُبدي، في علاقتها مع الجزائر «الراعي الرسمي للبوليساريو»، تمسكها بـ «الحياد الإيجابي» كما درجت على تسميته. بيد أن الوقائع على الأرض تروي شيئًا آخر: موريتانيا اختارت، بالفعل، التقدّم خطوة في اتجاه ترسيم موقفها العملي، عبر منع أي نشاط عسكري لجبهة البوليساريو انطلاقًا من أراضيها، وهو ما يمثّل خروجًا هادئًا من موقع التوازن السلبي إلى موقع الانخراط الواقعي في ترتيبات الأمن الحدودي.
الصدمة
وهو ما يحسم، الآن، في طبيعة الصراع العسكري في المنطقة، كما سيحسم في طبيعة النزاع وأطرافه، خاصة أن الجزائر ظلت، دائما، تصر على ادعاء أنها ليست طرفا فيه، على الرغم من إقامتها الدائمة في "فانتازيا عسكرية استعراضية على الحدود المغربية، بإجراء مناورات تكتيكية مع ما يستتبع ذلك من بروباغندا وتسخير الأبواق وقرع الطبول وإعلان النفير، في رسائل يستفاد منها إبراز القوة والتعبير عن جاهزية مطلقة لحرب فاصلة مع المغرب. علما أن عسكر قصر المرادية يدرك أن المغامرة بفتح جبهة حرب مباشرة مع جارتها الغربية، في خضم أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية مزرية، وجبهة داخلية مفككة متربصة، وصراعات حادة بارزة على مستوى القيادات العسكرية والأمنية، سيرتد عليها، ليس على المستوى السياسي فحسب، بل المستوى العسكري أيضا ما دامت الجزائر مطوقة بحزام من الديناميت، على مستوى المطالبة بالاستقلال في منطقة القبائل، فضلا عن نزاعاتها مع جوارها الإقليمي بمالي وليبيا والنيجر وبوركينافاصو، ناهيك عن مشاكلها التي لم تحل بعد مع دول أوروبية وازنة «فرنسا وإسبانيا» وضمور علاقة الثقة بينها وبين روسيا، ورخاوة الجبهة الليبية على المستوى الأمني، والتوتر السياسي في تونس، والهزيمة المدوية لحزب لله اللبناني، وتراجع إيران، واندحار نظام الأسد..
والحق أن القرار الموريتاني بتجفيف ممرات التسلل لصالح المعابر الرسمية شكل صدمة تكتيكية للجزائر التي ما زالت ترعى «الاتفاق السري مع هيد لله» وتعتبره ساري المفعول حتى الآن. كما شكل انتكاسة كبيرة لطموحات جبهة البوليساريو، التي رأت في القرار الموريتاني ضربًا لبنيتها العسكرية المتبقية، ونسفا لادعاء قدرتها على إثبات الحضور الميداني عبر شن هجمات سريعة وغادرة على أهداف مغربية. فالاحتجاج السياسي، مع النجاحات الديبلوماسية المغربية، لا يُعوّض انسداد الجغرافيا واستحالة عبور الجدار الأمني، في ظل المراقبة الجوية والرد الناري على كل تهديد، وفي ظل تشبث الرئيس ولد الشيخ الغزواني بالخيار السيادي الجديد، مما سيمكن المغرب من تأمين المناطق الواقعة شرق الحزام دون أي مجازفة عسكرية.
ولا تقف المكاسب المغربية من القرار الموريتاني الجديد عند المستوي الأمني أو العسكري. بل يتعدى ذلك إلى مستويات أخرى ما دامت الرباط تسعى إلى توسيع شراكاتها جنوبًا، وربط أقاليمها الصحراوية بشبكات تجارية واقتصادية نحو العمق الإفريقي. وضمن هذا السياق، يأتي مشروع فتح معابر جديدة بين الجنوب المغربي والشمال الموريتاني بوصفها مؤشرا على دينامية استراتيجية جديدة تهم ليس فقط تنشيط المبادلات التجارية عبر البر، بل أيضًا إعادة توجيه خطوط التصدير نحو أسواق غرب إفريقيا عبر موريتانيا، بدل المرور بالموانئ الجزائرية أو الإسبانية. وهو ما يفتح أمام بلاد شنقيط آفاقًا اقتصادية غير مسبوقة، ويمنحها موقعًا جغرافيًا محوريًا، يمكن أن يُدر عليها مداخيل جمركية ضخمة، واستثمارات في البنية التحتية، وربما تحوّلها إلى منصة لوجستية إقليمية. كما أن التفاهم مع الرباط قد يُترجم في شراكات أمنية وتكنولوجية، في وقت تحتاج فيه موريتانيا إلى تحصين أمنها الداخلي ومواجهة التحديات الإرهابية في الساحل.
تعرية الجزائر
غير أن السؤال الذي يبرز داخل هذا التطور الميداني الحاسم هو: هل سيتجاهل شنقريحة وتابعه تبون الخطوة الموريتانية التي ستكشف ظهرهم أمام المنتظم الدولي؟ هل ستحترم الجزائر قرار موريتانيا السيادي خاصة أنه قرار يمثل بالنسبة إليها تراجعًا خطيرًا لحزامها الجيوسياسي الذي رعته طويلا وأغدقت عليه طويلا. إذ لطالما رأت في المجال الموريتاني مكملاً لعمقها الاستراتيجي، وضمانة لتوازن ضد النفوذ المغربي، بل هو المنفذ اللائق والوحيد للوصول إلى الواجهة الأطلسية، عبر التعاون على إنشاء كيان جغرافي تابع؟
من الواضح أن العسكر الجزائري لن يرى في القرار الموريتاني سوى تعرية لظهره وكشف لزيف ادعاءاته، إذ ستنتقل مسؤولية تحريك الملف ميدانيًا بالكامل إلى الجزائر، وهو ما سيجعلها الراعي الوحيد للصراع، دون وسائط ميدانية أو فاعلين محليين مستقلين. بل قد يعتبره الزعماء الكراغلة انحيازا ضمنيًا إلى الرباط، مما يفسر لجوئهم بسرعة إلى محاولات تطويق القرار دبلوماسيًا، غبر تسريع وتيرة الزيارات إلى نواكشوط، وعرض مساعدات اقتصادية، وطرح مشاريع تنموية مشتركة، بل ممارسة الضغط من خلال تحريك أوراق أخرى في الإقليم، وهي الأوراق التي لا تخرج عن الابتزاز الأمني والعسكري، ومحاولة كسب الوقت لإفشال كل المبادرات الرامية إلى بناء جسور دائمة من الثقة بين المغرب وموريتانيا. لكن ما يصعب تجاوزه حقا هو أن الصحراء باتت في اللحظة الراهنة تحت سيطرة الجيش المغربي التي بسط هيمنته المطلقة على المنطقة العازلة، كما أن المشروع التوسعي الجزائري دخل في عزلة إقليمية متزايدة، خصوصًا في ظل خسارة الجزائر لعمقها في مالي والنيجر، وتراجع ثقة الحلفاء التقليديين، بمن فيهم روسيا.
من الواضح أن العسكر الجزائري لن يرى في القرار الموريتاني سوى تعرية لظهره وكشف لزيف ادعاءاته، إذ ستنتقل مسؤولية تحريك الملف ميدانيًا بالكامل إلى الجزائر، وهو ما سيجعلها الراعي الوحيد للصراع، دون وسائط ميدانية أو فاعلين محليين مستقلين. بل قد يعتبره الزعماء الكراغلة انحيازا ضمنيًا إلى الرباط، مما يفسر لجوئهم بسرعة إلى محاولات تطويق القرار دبلوماسيًا، غبر تسريع وتيرة الزيارات إلى نواكشوط، وعرض مساعدات اقتصادية، وطرح مشاريع تنموية مشتركة، بل ممارسة الضغط من خلال تحريك أوراق أخرى في الإقليم، وهي الأوراق التي لا تخرج عن الابتزاز الأمني والعسكري، ومحاولة كسب الوقت لإفشال كل المبادرات الرامية إلى بناء جسور دائمة من الثقة بين المغرب وموريتانيا. لكن ما يصعب تجاوزه حقا هو أن الصحراء باتت في اللحظة الراهنة تحت سيطرة الجيش المغربي التي بسط هيمنته المطلقة على المنطقة العازلة، كما أن المشروع التوسعي الجزائري دخل في عزلة إقليمية متزايدة، خصوصًا في ظل خسارة الجزائر لعمقها في مالي والنيجر، وتراجع ثقة الحلفاء التقليديين، بمن فيهم روسيا.
من الواضح، إذن، أن القرار الموريتاني سيعجل بانسداد الأفق الميداني للبوليساريو، وهو ما سيفضي إلى اندلاع توترات إضافية في مخيمات تندوف بين دعاة مراجعة الخط السياسي والانخراط في تسوية واقعية، وبين القيادة الحالية التي نشأت على الامتثال لأوامر العسكر الجزائري.
إن ما يميز قرار نواكشوط بسد الثغرة الأمنية شرق الحزام الرملي ليس حدثًا معزولًا، بل لحظة سياسية حاسمة اختارت بموجبها موريتانيا أن تتحرك وفق ما تُمليه مصالحها الأمنية والاقتصادية، لا وفق «منطق التوازنات الخارجية» الذي دأبت الجزائر على الانتفاع منه انتصارا لرهاناتها القديمة، وهو ما يعني أن قواعد اللعبة دخلت مرحلة جديدة، وعلى جميع الأطراف امتلاك القدرة على التكيّف مع المشهد الجديد، ذلك أن نزاع الصحراء، في صيغته الكلاسيكية، بدأ يدخل مرحلة الأفول.. ولا سقف لإنهاء النزاع إلا القبول بمقترح الحكم الذاتي المغربي.
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية "الوطن الان"